وضع داكن
19-04-2024
Logo
رمضان 1420 - خواطر إيمانية - الدرس : 52 - من سور المدثر النبأ عبس - العطاء من أجل الدنيا.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين.

من أراد الدنيا كان يوم القيامة صفر اليدين :

أيها الأخوة الكرام ... ما من مسلمٍ يسافر إلا ويرى ما عند هؤلاء الأجانب من صدق مثلاً، إتقان، نظام يدهش، هذا أيها الأخوة نوعٌ من الذكاء، هناك إشارةٌ في سورة المدَّثر إلى هذا، قال تعالى:

﴿ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ﴾

[ سورة المدثر : 6]

الإنسان أحياناً يُعطي، يتقن، يَصْدُق، يتخلَّق بخلقٍ كريم، وفي نيَّته أن تكون له مكاسب كبيرة من هذا الخُلُق، أراد الدنيا، هذا شيء واضح جداً، الإنسان قد يريد الدنيا بطريقٍ مشروع، وقد يريدها بطريقٍ غير مشروع، فمن أراد أن يكون صادقاً، وأميناً، ومُتْقِناً، ويفي بوعده، وينجز عهده من أجل أن يكسب الدنيا، وأن تعود عليه هذه الأخلاق بخَيْرات حسان في الدنيا، له ذلك، لكن هذا لا ينفعه يوم القيامة شيئاً، هذا للدنيا وقد أخذ جزاءه في الدنيا، فهذه الإشارة في كتاب الله..

﴿ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ﴾

[ سورة المدثر : 6]

لا تعطِ من أجل أن تستكثر، أن يكون ردّ الفعل قوياً، أحياناً الإنسان دون أن يشعر يقول لك: أنا أحب أن أزرع معروفاً في كل مكان، كله أجده في الدنيا. ماذا أراد بهذا؟ أراد الدنيا، فالأذكياء أحياناً يصلون إلى أهدافهم الدنيوية عن طريق التقيُّد ببعض المَكارم الأخلاقية، هذه في ميزان العبادات لا قيمة لها إطلاقاً، هذه في الدنيا لها قيمة ويُعطى صاحبها ما أراد من الدنيا ..

﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ﴾

[ سورة الإسراء: 18 ]

هذه للدنيا، ويقطف ثمارها في الدنيا، فإذا انقلب إلى الله عزَّ وجل يجد يديه صفراً، فعلت هذا ليقال عنك كذا، وقد قيل، فخذوه إلى النار، تعلمت هذا ليقال عنك كذا، وقد قيل، خذوه إلى النار، تصدقت ليقال كذا، وقد قيل، خذوه إلى النار، دققوا في نياتكم أيها الأخوة. أنا والله لا أشدد عليكم ولكن أضعكم أمام الحقيقة ..

﴿ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ﴾

[ سورة المدثر : 6]

لا تعط من أجل أن يعود عليك الخير، أردت الدنيا، وليس هذا من العبادة في شيء.

 

من يصبر على أخيه مظنة إصلاحه فأجره على الله :

ثم هناك نقطةٌ ثانيةٌ دقيقةٌ جداً:

﴿ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾

[ سورة المدثر : 7]

أنت قد تصبر لأنك لا تقدر، فهذا الصبر الذي يأتي عن طريق القمع، أو يأتي عن طريق الضعف ليس هذا هو الصَبر الذي هو فضيلةٌ ترقى بها، يجب أن تصبر لربك، قد تكون قوياً وتصبر، وقد تكون غنياً وتصبر، وقد تكون قادراً أن تفعل الأفاعيل بخصمك وتصبر، البطولة أن تعفو عند المَقدرة، أن تصبر لوجه الله عزَّ وجل، فكم من إنسانٍ قوي بإمكانه أن يفعل كل شيءٍ بخصمه، ولكنه يصبر لله عزَّ وجل، والآية الكريمة:

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ*وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾

[ سورة الشورى: 39-40]

لكن ..

﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾

[ سورة الشورى: 40]

حينما يغلب على ظنِّك أن عفوك عن أخيك يصلحه، إنك تعفو وتصبر لله عزَّ وجل .

الإنسان هو المخلوق الأول :


أيها الأخوة ... إشاراتٌ قليلة وردت في القرآن الكريم تشير أن الإنسان هو المخلوق الأول من بين كل الخلائق، قال تعالى:

﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ﴾

[ سورة المدثر : 11]

هذا المخلوق الذي قَبِل حمل الأمانة، فسخر الله له ما في السموات وما في الأرض بنَصِّ القرآن الكريم، في السماء للآن مئة ألف مليون مجرَّة، السموات والأرض، وما فيها، وما عليها، وما فوقها، وما تحت الثرى، وحيواناتها، ونباتاتها، وأطيارها، وأسماكها، وفلذاتها، وجبالها كلها مسخرةٌ لهذا الإنسان الأول ..

﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً ﴾

[ سورة المدثر : 11-12]

أعطيته قدرات يكسب بها المال، إنسان يُتقن التجارة، إنسان يتقن الصناعة، إنسان يتقن التعليم، إنسان يتقن الطِب، الله جعل للإنسان معايش- سبلاً للعَيْش- ما قيمة الإنسان لو أن الله عزَّ وجل سلبه قدراته؟ أخذ منه قدراته فأصبح لا يعي على خير؟ ..

﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً ﴾

[ سورة المدثر : 11-13]

يشهدون له خلقه، أنت تعرف خلقك من ابنك، فباللقاء الزوجي هناك خمسمئة مليون حوين، حوينٌ واحدٌ يلقِّح البويضة، فإذا لقَّحها انقسمت إلى عشرة آلاف جزيء وهي في طريقها إلى الرحم دون أن يزداد حجمها، والحديث عن علم الأجنَّة حديثٌ يطول ..

﴿ وَبَنِينَ شُهُوداً ﴾

[ سورة المدثر : 11-13]

ابنك يشهد لك كيف خُلقت، كما أنك ترى أن ابنك كان فكرة زواج، ثم تزوجت، ثم أنجبت، فإذا ابنك شخصٌ كامل؛ يسمع، ويرى، ويُبصر، ويتحرَّك، ويأكل، ويشرب، ويفكر، ويضحك، ويبكي، ويعمل، ويدرس، ويتعلَّم ..

﴿ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾

[ سورة المدثر : 12-15]

قال تعالى:

﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾

[ سورة طه : 114]

أما شعار الناس اليوم: وقل رب زدني مالاً . وشتَّان بين الشعارين ..

﴿ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ ﴾

[ سورة المدثر : 16-18]

العقل بلا وحي لا قيمة له :

أيها الأخوة ... لو أن الإنسان يتمتع بعينين سليمتين حادتين في أعلى درجة، ما قيمتهما لولا الضوء الذي يتوسَّط بينها وبين الأشياء؟ وتماماً العقل لولا الوحي لا قيمة له، عقل من دون وحي يدمِّر نفسه .
وسوف ترون أن العقل البشري مع تفوقه الشديد، ماذا فعل الآن؟ وصل إلى الفضاء الخارجي، غاص في أعماق البحار، نقل الصورة إلى كل أنحاء الأرض، نقل الصورة الملونة، توجد إنجازات بشرية تفوق بتصورها حدّ الخيال، الإنسان الآلي بالكمبيوتر ممكن أن يقرأ أربعمئة وخمسين مليون حرف بالثانية الواحدة، ممكن قرص صغير؛ خمسمئة كتاب بكل صفحاتها، وفهارسها، وضبطها، وضبط كلماتها، وكل شيء بقرص صغير، توجد إنجازات عقلية مذهلة، ومع ذلك هذا العقل سوف يدمِّر نفسه لأنه لم يهتدِ بالوحي، الوحي نور ..

﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾

[ سورة المدثر : 18]

إنه فكَّر من دون وحي، وحده ..

﴿ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ﴾

[ سورة المدثر : 19-29]

إذاً حينما يعتمد الإنسان على عقله فقط يَشْقى، وقد تدمِّر البشرية نفسَها لأنها اعتمدت العقل وحده دون أن تعتمد وحي السماء معه، وحي السماء هو النور ..

﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾

[ سورة النور : 35 ]

الله خلق الأكوان ونوَّرها بمنهجه وبالقرآن ..

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾

[ سورة المدثر : 38]

إن كل واحد منا والحمد لله طليق، يأتي إلى هذا المسجد، يسافر، يجلس في البيت، يمشي في الطريق، لا يوجد عليه إذاعة بحث، ولا يلاحق، فالإنسان طليق، أما إن عمل عملاً سيئاً أصبح رهين هذا العمل، كإنسان تورَّط بقتل إنسان يفقد حريته، صار في السجن ثلاثين سنة، هذا بشكل مُصَغَّر ..

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ* مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ﴾

[ سورة المدثر : 38-43]

للصلاة آثار مذهلة :


لذلك الصلاة هي أول ما يحاسب عنه المرء يوم القيامة؛ فإن صحَّت صحَّ عمله، وإن لم تصح لم يصحَّ عمله، إنها سيدة القُرُبات، إنها غرة الطاعات، إنها معراج المؤمن إلى رب الأرض والسموات، إنها نور، وإنها طَهور، وإنها حَبور، وإنها ذِكْر، وإنها قُرب، وإنها عقل، وإنها وعي، وإنها معراج، والصلاة لها آثار مذهلة ..

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾

[ سورة المعارج : 19-22]

أي أن الإنسان شديد الجزع، شديد الهَلَع، شديد الخَوْف، شديد الحرص، أما المصلي فنجا من هذا الضعف النفسي ..

﴿ إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾

[ سورة المعارج : 22]

على الإنسان أن يكون مع الحق :

﴿ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ﴾

[ سورة المعارج : 43-44]

انظر لهذا الترابط، آمن وعمل الصالحات، لا يصلي ولا يطعم المسكين ..

﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ﴾

[ سورة المعارج :45]

هناك تيارات بالمجتمع، وصرعات، وتقاليد قديمة وحديثة، الآن دهماء الناس وسوقتهم مع التيار العام، مع الموضة، مع صرعات الأزياء، مع الفضائيات، كل شيء يفعله الناس تجده ماشياً مع المجموع، أما ..

﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 116]

يجب أن تكون مع الحق، والحق جماعة ولو كنت واحداً، والباطل فُرادى ولو كانوا ملايين ..

أخطر تكذيب التكذيب العملي :

﴿ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴾

[ سورة المعارج :46]

الآن اسأل أي مسلم في الأرض: هل تعتقد باليوم الآخر؟ يقول لك: أعوذ بالله هذا الإيمان في دمي. انظر إلى عمله، لا ترى عمله يؤكِّد ما اعتقده، معنى ذلك هناك تكذيب قولي، وهذا نادر جداً، أما أخطر تكذيب فالتكذيب العملي، ألا يكون عمل المَرْء متوافقاً مع عقيدته، هو يقول لك: أنا مؤمن باليوم الآخر. لكن لا تجد في عمله ما يشعر بذلك، هذا معنى التكذيب ..

﴿ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ﴾

[ سورة المعارج :47-49]

دقق في هذا الوصف:

﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ *فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾

[ سورة المدثر : 50-51]

"خلقت لك ما في السموات والأرض ولم أعيَ بخلقهن أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كل حين؟ لي عليك فريضة ولك عليَّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلطنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي كنت عندي مذموماً " ." أنت تريد وأنا أريد فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد ".

لا يليق بالإنسان أن يكون لغير الله :

في نهاية هذه السورة ..

﴿ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ﴾

[ سورة المدثر : 54-56]

هل بالكون جهة هي أهلٌ أن تبيعها حياتك؟ أن تهبها حياتك؟ أن تهبها قدراتك؟ أن تهبها مالك؟ أن تهبها حبك؟ أن تهبها ولاءك؟ أن تهبها إخلاصك؟ أن يكون كل عملك خالصاً لها؟ إنه الله، لا توجد جهة في الكون مؤهلة أن تهبها عمرك إلا الله، لا يليق بك أن تكون أنت لغير الله، إنك إن كنت لغير الله فقد احتقرت نفسك، ومعظم الناس هُم لغير الله، هم لزيدٍ أو عُبيد، هم يعبدون من دون الله آلهةً دون أن يشعرون، أنت لله وحده ..

﴿ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى ﴾

[ سورة المدثر : 56]

أي أهلٌ أن تطيعه ..

﴿ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ﴾

[ سورة المدثر : 56]

وأهلٌ أن يغفر لك، وأن يجعلك في أعلى عليين .

الإيمان باليوم الآخر إيمان إخباري و عقلي :

أيها الأخوة ... في سورة عمَّ ..

﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ *الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُون*ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة عم : 1-5]

الآن:

﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً *وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً ﴾

[ سورة عم : 6-17]

ما العلاقة بين هذه الآيات الكونية وبين قول الله عزَّ وجل:

﴿ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً ﴾

[ سورة عم : 17]

العلاقة: أيْ أيعقل أن يكون هذا الكون العظيم:

﴿ الْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً *وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً ﴾

من أجل سنواتٍ نعيشها وانتهى الأمر؟! لا يتناسبون، لابدَّ من أن نؤمن أن بعد هذه الحياة الدنيا حياةً أبدية، وأن هذا الكون هو أداة تعريفٍ بخالقه، وأنك إن عرفت خالقه عملت للآخرة، فالعلاقة بين هذه الآيات الكونية وبين قوله تعالى:

﴿ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً ﴾

[ سورة عم : 17]

هي علاقةٌ بين المُقَدِّمات والنتائج . لذلك أكثر علماء المسلمين يرون أن الإيمان باليوم الآخر هو إيمان إخباري، لكن بعض العلماء الأفذاذ يرون العكس، يرون أن الإيمان باليوم الآخر إيمانٌ عقلي، العقل لا يرضى أن يكون كل هذا الكون العظيم والناس كما ترون؛ أقوياء وضعفاء، وأغنياء وفقراء، وأصِحَّاء ومرضى، وتنتهي الحياة هكذا من دون تسوية حسابات؟! الذي خلق الكون كمال الخلق يدل على كمال التصرف.
مرَّة ثانية:

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾

[ سورة النازعات: 27]

المؤمن تملأ نفسه عظمة الله أما غير المؤمن فمخترعات البَشر :

كما قلت لكم من قبل: الإنسان الشارد عن الله عزَّ وجل دائماً يعظِّم صنعة الإنسان، مع أنه توجد آيات كونية تأخذ بالألباب. هناك ثقب أسود في الكون هذا مقبرة النجوم، إذا دخلته الأرض التي نحن عليها بقارَّاتها الخَمْسة، والتي تعدل خُمس مساحة الأرض، الأرض بـأكملها وبحجمها تغدو بحجم البيضة إذا دخلت في هذا الثقب الأسود .
ذكرت من قبل أن كلمة (مواقع النجوم) أن هذا الضوء الذي رأيناه هو قد انبعث من نجمٍ قبل سبعة عشر مليار سنة ضوئية، وأن هذا النجم الذي أرسل هذا الضوء يمشي بسرعةٍ تقترب من الضوء، سرعة تقدر بمئتين وأربعين ألف كيلو متر بالثانية، فهذا النجم أين هو الآن؟ أين هو؟

﴿ فلا أقسم بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾

[ سورة الواقعة: 75 ]

لو قال: بالنجوم . ليس كلام الله عزَّ وجل ..

﴿ فلا أقسم بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾

[ سورة الواقعة: 75 ]

هذا الضوء انبعث من موقعٍ هناك، أما صاحب الموقع فلا يعلم أحدٌ أين مكانه الآن.
فدقق في كل شيء .. الكلية الصناعيَّة حجمها كحجم هذه الطاولة، ويجب أن يستلقي المريض ثماني ساعات كي يصفَّى دمه من حمض البول، أما الكلية الطبيعيَّة فحجمها بحجم البيضة، وتعمل بصمت ودون أن تعطل عملها.
وازن بين آلة التصوير وبين العين، هذه التي تفرِّق بين درجتين من ثمانمئة ألف درجة، اللون الواحد لو درَّجناه ثمانمئة ألف درجة فالعين البشرية تفرِّق بين درجتين من اللون الواحد، لذلك:

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾

[ سورة النازعات: 27-31 ]

فهذا المؤمن دائماً تملأ نفسه عظمة الله، بينما غير المؤمن تملأ نفسه مُخترعات البَشر، بل إن المؤمن حتى لو رأى جهازاً بالغ الدقَّة يعظِّم الله عزَّ وجل بطريقة مُرَكَّبة، أي لولا أن الله أعطانا هذه العقول لما صنعنا هذه الأجهزة، إذاً هذا من فضل الله علينا.

أحداث حياة الإنسان تعرض أمامه حينما يشارف على الموت :

أخواننا الكرام ... الإنسان حينما يُشارف على الموت يستعرض كل أعماله بثوانٍ معدودة، عمله منذ أن ولِد وحتى الآن يُعْرَض عليه بشريطٍ سريع، واسألوا أي إنسان شارف على الموت، كاد يموت، أصيب بمرض وكاد يودي بحياته ثم شفاه الله، اسأل هذا الإنسان سيقول لك: استعرضت كل أعمالي.
مرة حدثني أخ كان يعمل في كلية الطيران في مصر، هو يعمل في كلية الطيران المَدني، كان يركب طائرة تدريب وتعطَّلت الطائرة، ونزل من على الطائرة، هوى من ارتفاعٍ شاهق إلى الأرض، أقسم لي أنه في أثناء هبوطه استعرض كل مراحل حياته، كان مُعَلِّماً، وكان له والد متقاعد، ووالده نهاه أن يدخل في الطيران، وكان أمين مكتبة، قال لي: كل شيء مرَّ بحياتي خلال أربعين سنة رأيته وأنا أسقط، لكن الله أنقذه بعنايةٍ خاصةٍ جداً. إذاً:

﴿ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ﴾

[ سورة النازعات: 35]

بأي لحظة يشرف فيها الإنسان على الموت تُعْرَض أمامه كل أحداث حياته كشريطِ واضح ..

التناقُض بين التكليف والطبع ثَمن الجنة :

﴿ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾

[ سورة النازعات: 36-41]

التناقُض بين التكليف والطبع هو ثَمن الجنة، يجب أن تؤْثر ما عند الله عزَّ وجل على الهوى. دقق في هذه الآية:

﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾

[ سورة النازعات: 46]

عمر الإنسان كله يمضي كلمح البصر ..

﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾

[ سورة النازعات: 46]

الله عزَّ وجل لا يعتب على النبي بل يعتب له :

آخر شيء بهذه الفقرة الأولى قوله تعالى:

﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾

[ سورة النازعات: 46]

الله عزَّ وجل لا يعتب على النبي بل يعتب له، وشتَّان بين أن تعتب على إنسان وبين أن تَعْتَبَ له، فلو أن أباً رأى ابنه لا ينام، يدرس ولا ينام يعنِّفه: قم ونم، إن لجسمك عليك حقاً. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان مع ابن أم مكتوم، هذا أحد أصحابه الكرام المحبين، ولكن آثر أن يكون مع كفار قريش، الألداء، الأعداء، المُعارضين، لعل الله يهديهم، أخذ الموقف الأصعب، فربنا عزَّ وجل عاتبه وبيَّن له أن هؤلاء لا خير فيهم، هذا هو الأمر ليس كما يتوهَّم بعض الناس ..

﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى *أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى *أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى *فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى *وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى *وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى *وَهُوَ يَخْشَى* فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ﴾

[ سورة عبس:1-11]

تفسير ثم السبيل يسره :

أيها الأخوة ... أمرٌ إلهيٌ في هذه السورة:

﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾

[ سورة عبس:17-20]

أي على كلمة

﴿ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾

مؤلَّفة كُتُب، كيف عظم الحوض يتوسَّع بحركة ميكانيكية، وكيف أن هذا الغلام يخرج من رحم أمه، وكيف عضلات الرحم تنقبض انقباضاً ليِّناً متزامناً قبل الولادة، فإذا خرج الطفل من الرحم انقبض الرحم قبضةً شديدةً حتى يكون كالصَّخر، لأن الانقباض الشديد يغلق كل الشرايين المفتوحة، أما الانقباض الأول فلو كان شديداً لقتل الطفل. العلماء قالوا: لو عُكِسَ الانقباضان لماتت الأم وطفلها، لو كان انقباض الرحم شديداً قبل الولادة لمات الطفل، ولو كان انقباض الرحم ليِّناً بعد الولادة لماتت الأم من النزيف، أما انقباضٌ يسيرٌ في البداية ثم انقباضٌ شديدٌ في النهاية، قال:

﴿ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾

[ سورة عبس:20]

الولادة وحدها شيءٌ عجيب، هرمونات لا ترى بالعين تذهب إلى أماكن معيَّنة، فتأمر العضلات، فيتوسع عظم الحوض ليخرج الطفل ..

﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ﴾

[ سورة عبس:17-23]

ماذا يفعل الإنسان؟ ماذا ينتظر؟ الموت على الأبواب وقد يأتي سريعاً . 

تحميل النص

إخفاء الصور