وضع داكن
28-03-2024
Logo
رمضان 1420 - خواطر إيمانية - الدرس : 29 - من سورة الحج - خريف العمر.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

من نشأ بطاعة الله و كان مستقيماً على أمره متع بصحته إلى أمد طويل :

 أيها الأخوة الكِرام؛ من خلال التأمل في خريف العمر الذي يمر بِهِ كُل الناس يتضح أنَّ أُناساً يعيشونَ عمراً مديداً في صحةٍ طيبة، وفي مكانةٍ عليّة، وفي ملكاتٍ عالية، ملكاتُهُ عالية، والصحة طيبة، ووجود قوي، وقد يتوفّى وفقَ سُنّة رسولِ الله ثلاثة أيام، أحد أخواننا- أنا كنت مسافراً- توفي بالعيادة، تقريباً كان عمرهُ تسعين سنة، عاش بصحة طيبة جداً، ومات بأيام ثلاثة وفقَ سُنّة رسولِ الله، وقد تجد إنساناً يُعاني من المرض ما يعاني، يعاني من ضعفِ الذاكرة، يعاني من تخلّف العقلِ، هذا اسمهُ أرذل العمر، الحقيقة يوجد قانون، الإنسان إذا نَشَأَ في طاعة الله، وكانَ مستقيماً على أمرِ الله، لَهُ مكافأة في الدنيا قبلَ الآخرة، مكافأتُهُ في الدنيا أنّهُ يُمتّعُ بصحَتِهِ إلى أمدٍ طويل، والإنسان إذا خَرَجَ عن منهجِ الله كأّنَ خريفَ العُمر يلُخّص شبابَ العُمر، فمن أفنى شبابَهُ في طاعة الله متّعَهُ اللهُ في خريفِ عُمُرِهِ بمكانةٍ عليّة، وملكاتٍ قوية، وصحةٍ طيبة، وهذا شيء ثابت، قد تجد أُناساً صالحين عمّروا عُمراً مديداً، تمتّعوا بِصحتِهم وقوتِهم وسمعِهم وبصرِهم وذاكِرَتِهم، لي صديق لَهُ أب صالح فيما أعلم، زُرتُهُ في العيد قالَ لي: أنا أجريت تحليلاً البارحة، فكان كلهُ طبيعياً، عمرُهُ ست و تسعون سنة، التحليل كامل، كُل النِسب طبيعية، أعرف أُناساً كثر عاشوا عُمراً مديداً، والصحة طيبة، وتجد أُناساً عانوا من ضعف في ذاكرِتِهِم، أي أصيبوا بالخَرَفْ، أي خريف عُمر كما قالَ اللهُ عزّ وجل:

﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾

[سورة الحج: 5]

 حدثني أخ لَهُ والدة قالَ لي: نحنُ نقوم بتمديدها، ونقوم بتربيط أرجلِها وأيديها، قلت له: لماذا؟ قال: لو أُطلِقت يداها لأكلت غائِطَها، وخَلَعت كُلَّ ثيابِها، أصبحَ لها على هذهِ الحالة حوالي عشر سنوات، ما من واحدٍ إلا ويتمنى أن تموت حتى أقربَ الناسِ إليها، الآية الكريمة:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ* وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾

[سورة الحج:1- 5]

 هذهِ من للتبعيض، هناكَ من يفقِدُ ذاكِرَتَهُ يدخُلُ عليهِ ابنُهُ يقول لَهُ: من أنت؟ يعانون من تضيق أخلاقه إلى درجة لا يُحتمل.

 

أفعال الله تشهد لكلامه أنه كلامه :

 أيها الأخوة الكِرام؛ أحد العلماء عاشَ أيضاً عمراً مديداً، وتمتّعَ بِقِوامٍ وصحةٍ وسمعٍ وبصرٍ، فإذا سُئِل عن هذهِ الصحة يقول: يا بُني حفظناها في الصِغر فَحَفِظَها اللهُ علينا في الكِبَر، هذهِ ليست قانوناً قطعياً لكن يُستأنس بِهِ، أي اللهُ لَهُ حكم، قد تجد إنساناً صالحاً ابتلاهُ الله بِمرض في آخر حياتِهِ، على كُل مالَكِ يا بُنيّتي؟ قالت: حُمى لَعَنَها الله، قالَ: لا تلعَنيها فو الذي نفسُ محمّدٍ بيده لا تدعُ المؤمِنَ وعليهِ من ذنب، جميع المصائِبِ للمؤمن مُكفِرات، الحديث:

(( وعزتي وجلالي لا أقبِضُ عبدي المؤمن وأنا أُحبُ أن أرحَمَهُ إلا ابتليتُهُ بِكلِ سيئةٍ كانَ عَمِلَها سُقماً في جسده، أو إقتاراً في رِزقَه، أو مصيبةً في مالِهِ أو ولده، حتى أبلُغَ مِنهُ مِثلَ الذرّ، فإذا بقيَ عليهِ شيء شددتُ عليهِ سكراتِ الموت حتى يلقاني كيومَ ولدَتُهُ أُمه ))

[ ورد في الأثر ]

 على كُل المؤمن مُكرّم ولو ابتلاهُ اللهُ عزّ وجل، لكن الأكمل أن تعيشَ خريفَ عمرٍ تتمتعُ بِقوتِكَ، وصحتِكَ، وسمعِكَ، وبصَرِكَ، وملكاتِك، واللهِ أيها الأخوة كُنا في تعزية في حلب فالمُعزّى لَهُ شيخ، شيخ صالح، فدعانا إلى زيارةِ شيخِهِ، واللهِ ما رأيت ملكاً في مُلكِهِ أهيب من هذا الشيخ، عمره تسعون سنة، ملكاته، ذاكرته، طلاقة لِسانه، وجهُهُ المنير، حولهُ أخوانه، حولُهُ أولادُهُ، لم أر عِزاً كهذا العِز، إنسان يُطيع الله في حياتِهِ، يغُض بَصَرهُ، يضبِط لِسانه، يتصّدق، يُصلي، يقرأ القرآن، يُعلّم القرآن، أي لهُ عِندَ الله مكافأة في الدنيا قبلَ الآخرة، هناك قِصص كثيرة، هناكَ أُناس يعملون في الدعوة، قالَ لي: عمري خمس و ثمانون سنة والحمدُ لله لا أشكو من شيء، تجد شخص في الـستبعة و الثلاثين معطوباً، في الأربعين معطوباً، فإذا الإنسان حَفِظَها في الصِغر يحفَظها اللهُ لَهُ في الكِبر، هناك أمراض والعياذُ بالله يتمنى الموت فلا يجدهُ، وتجد شخصاً سُمعَتهُ طيبة، صحتهُ طيبة، ملكاتهُ قوية، من حولهُ يُحبونَهُ، الإنسان أحياناً يُصاب بأهلِهِ، أولاد عاقّون، والله هذا بلاء كبير، أقسمَ لي بالله رجل قالَ لي: واللهِ إذا دهس ابني سوف أعمل مولداً، لَهُ ابن عاق لدرجة لا تحتمل، يُقسم بالله إذا مات في حادث ليُجري مولداً ابتهاجاً بِموتِهِ، تجد أولاداً ذُخراً للإنسان باستقامته، بخدمِتِهِ لِوالِدِهِ، فالإنسان على قدر ما يُطيع الله في شبابِهِ يظهر في شيخوخَتِهِ، هذا خريف العمر كلنا سوف نمر فيهِ بشكل إجباري، لا أحد سوف يهرب منهُ، لكن خريف العُمر متعلّق بشباب العُمر، بِقدر ما أنتَ في الشباب مستقيم، مُطبّق للمنهج، وقّاف عِندَ كِتاب الله، تؤدي ما عليك، تؤدي العبادات، لَكَ عِندَ الله خريف عُمر متألق، هذا الشيء واللهِ واضح.
مرة إنسان دخل إلى بيتي قالَ لي: كم تُقدّر عمري؟ والله أنا بحسب اجتهادي قدرّت له ستين سنة، قالَ لي: عمري ست و سبعون، ولا يزال حيّاً حتى الآن، القصة من عشر سنوات، قالَ لي: واللهِ لا أشكو من شيء، أُحس بقوة كأنني حصان، قال: أستطيع أن أهدم هذا الحائط، عَمِلَ في وظيفة، وفي هذهِ الوظيفة ممكن أن يكون معظم دخلِهِ حراماً، قالَ لي: واللهِ لم آكل قرشاً حراماً في حياتي، ولا ليرة، وكنت في عون الضعيف دائماً، والله متعنّي بهذهِ الصحة، لَهُ أولاد قام بتزويجهم، ولَهُ أصهار طيبون، ولَهُ أولاد أبرار، ويعيش في بحبوحة، قالَ لي: أنا كان معي في الوظيفة أربعون أو خمسون موظفاً، مدّوا يدهم للحرام فقَصَمَهُم اللهُ عزّ وجل، وماتوا في حادث، اللهُ أفعالُهُ موجودة، أفعالُهُ تشهَدُ لِكلامِهِ، أفعالُهُ تشهَدُ لِكلامِهِ أنّهُ كلامُهُ، فهذهِ كلمة يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ.
 سمعت عن إنسان قلبُهُ قاس جداً، لا يلين، كان هوَ طبيباً نسائياً وحيداً - هذه القصة منذ ثمانين سنة - وأنا سمعت عنهُ، كان لا يخرج من بيتِهِ إلا بعربة وليرة ذهب، امرأة فقيرة، تموت أبداً يبيعون أحياناً فِراشها من تحتِها ليُقدموا لَهُ الليرة الذهبية والعربة، لا يلين قلبُهُ أبداً وهوَ كان الطبيب الوحيد، قام بتشييد بناية في شارع نوري باشا، وهي أول بناية في المنطقة أُشيدت، والآن أنا أعرِفُها، البناية عبارة عن حجر مُزخرّف، لها إطلالة على الشام كُلّها، بعد أن سكنها بفترة بسيطة أُصيب بِشلل كامل، فزوجتهُ خلال أسبوعين أو ثلاثة أعطت أمراً بوضعِهِ في القبو لصعوبة وضعِهِ، وكانت تغيبُ عنهُ الأيام الطِوال، وتُرسل الصانعة مع الطعام لَهُ، وكانت قاسية جداً لدرجة بعد حين نقلتهُ إلى بيت آخر بعيد لكيلا تصدر رائِحَته، وعاش ثماني سنوات على هذهِ الحالة، أي اللهُ عزّ وجل لَهُ أفعال عجيبة، على قدرِ ما تستطيع في شبابك استقم وقُم بخدمة الناس، وأطع ربك، وقِفْ عِندَ حدود الله، واعمل عملاً صالحاً، وهناك آخرة طبعاً، الجزاء في الآخرة، وهناك أيضاً جزاء مُعجّل في الدنيا في خريف العمر، جزاء مُعجّل في الدنيا أولاً دائماً.

 

من يقف عند حدود الله يعامله الله معاملة يرضى بها عنه :

 هذهِ الآية الكريمة واللهِ أيها الأخوة إذا الإنسان قرأها واستوعبها تملأ القلبَ طمأنينةً، أنا لا أملّ من هذهِ الآية يمكن قُلتها حوالي ألف مرة:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

[سورة الجاثية: 21]

 هذا الاستواء يتناقض مع وجود الله مستحيل وإلا هناك عبثية، إنسان مستقيم وقّاف عِندَ حدود الله، يخشى الله، يُعاوِنُ الناس جميعاً، هذا تُريد أن يُعامل كما يُعامل إنسان متفلّت مسيء؟!

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

[سورة الجاثية: 21]

 دعكَ من الآخرة، الآخرة يوم الدين، يوم الحق، في الدنيا قال:

﴿ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

 لا محياهم ولا مماتُهم يختلفون، فالإنسان عندما يُطبّق منهج اللهُ عزّ وجل لَهُ خريف عُمر متألّق، وأنا الذي أعرِفُهُ الإنسان عندما ينضج يُصبح عطاؤُهُ كبيراً جداً، فإذا الإنسان متّعهُ الله بعقلِهِ، متّعهُ بملكاتِهِ، متّعهُ بصحتِهِ، وهوَ في نُضجٍ شديد يمكن في السنوات بعد الخمسين يعطي عطاء كبيراً جداً، هذا الذي أردتُ أن يكون من خِلال قولِهِ تعالى:

﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ﴾

 فالإنسان يكون وقّافاً عِندَ حدودِ الله، يضبط لسانهُ، أحياناً يتكلّم كلمة قوية يدفع ثمنُها باهظاً، يضبط لِسانهُ، يضبط دخلهُ، يضبط إنفاقهُ، بيتهُ، أُسرَتهُ، أولادهُ، واللهُ عزّ وجل يتكفّل لَكَ بأن يُعامِلَكَ معاملةً ترضى بِها عن الله.
 قال: يا ربي هل أنتَ راضٍ عني؟ إنسان يطوف حولَ الكعبة، فكانَ وراءه الإمام الشافعي فيما يُروى، قالَ لَهُ: يا هذا هل أنتَ راضٍ عن الله حتى يرضى عنك؟ قالَ: يا سبحانَ الله كيفَ أرضى عنهُ وأنت أتمنى رِضاه؟ قالَ لَهُ: إذا كانَ سرورُكَ بالنِقمة كسرورِكَ بالنعمةِ فقد رضيتَ عن الله، هوَ:

﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾

[سورة التوبة : 100]

 والبارحة:

﴿ وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾

[سورة الليل: 21]

 أي أنت عندما تُصلّي صلاة مُتقنة يأتيكَ الخير من الله عزّ وجل، سوفَ ترضىَ عن الله، هذهِ واحدة.

 

اختلاف مصائب التأديب عن مصائب الابتلاء :

 النقطة الثانية أخواننا الكِرام دقيقة جداً من أجل توضيح الآية لابُدَ من مثل، إذا قُلنا: يوجد مساحة، هذهِ المساحة كُل ما فيها يعصي الله، وهناك مساحة ثانية للطائعين، فربنا عزّ وجل يسوق مصيبة لينقُلَ الإنسان من أرض المعصية إلى أرض الطاعة، هذهِ مصائب تأديب، الآن دخل إلى أرض الطاعة لكن أين موقِعهُ؟ أرض الطاعة لها مواقع كثيرة، يوجد موقع قريب من حدود المعصية أي أقل إغراء، أو أقل ضغط ينتكس، هو انتقل من منطقة المعصية إلى الطاعة، لكن قد يكون مكانهُ على الحد، فأيّ إغراء أو أي شِدّة ينتكس يعود إلى ما كانَ عليه، هناك إنسان مقامُهُ بعد متر، أو بعد مترين، أو بعد ثلاثة أمتار، أرض الطاعة عريضة ثم متصاعدة، شخص وصل إلى الأعماق، وإلى الارتفاعات العالية، لا ضغط، لا سياط الجلادين اللاذعة، ولا سبائك الذهب اللامعة تؤثر فيه، فهناك مصائب لِنقلك من المعصية إلى الطاعة، ومصائب لِنقلك من موقع إلى موقع في الطاعة، شخص مثلاً يَظُنُ نفسهُ خيراً وفعلاً هو صالح لكن مقاومتِهِ لو فرضنا نأخُذها قضية مالية جاءهُ عرض بِمبلغ حرام يرفُضَهُ، هو يرفض الألف والألفين والثلاثة آلاف والخمسة والعشرة والمئة، فجاءه عرض بمليونين، ماذا يحصل معَهُ؟ يجوز بهذا المبلغ يلين مع أنّهُ كانَ يظُنُ نفسَهُ بحجم أكثر بكثير فالله حجّمَهُ، مصائب الابتلاء غير مصائب التطهير، إنسان مُقيم على معصية، عِندَهُ مصائب خاصة، كُل معصية لَها مُصيبة، من أجل أن ينقُلَكَ الله من منطقة المعاصي إلى الطاعات، الأن دخلت في الطاعات، عندك ابتلاء، وللابتلاء هدفان: التعريف بموقِعك، والحث للانتقال لموقع آخر، عرّفك أنتَ أين، أعطاك دفعاً تنتقل لموقع آخر، لذلك هذا معنى قولِهِ تعالى:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾

[سورة الحج: 11]

 هو أطاعَ الله، واصطلح معهُ، لكن موقِعَهُ على حرف حدود المعصية، الذي يقف هُنا لا يحتمل أي ضغط، أي ضغط ينتكس، أو أي إغراء ينتكس، أي فتاة تصرِفُهُ عن دينِهِ كُلهِ، أما هو:

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾

[سورة الأحزاب: 23]

 عاهدنا رسولَ الله على السمعِ والطاعة في المنشَط والمكره، تجد شخصاً مثلاً في جامع أحد أركان المسجد، هذا عاهد الله عزّ وجل، تأتيهِ ظروف صعبة، يَقل دخلهُ كثيراً، عندهُ مشكلة في البيت، يمرض أحد أولادِهِ، مثلاً يفتقر، يُهدد أحياناً، يخاف، لا يُغيّر، لأنه عاهد الله، هذا رُكن من أركان الدين، وهناك شخص على الرخاء الشديد متألّق، أي ضغط، أي إغراء انتهى، هذا على الحرف، فربنا عزّ وجل لكيلا يغشنا، بالدنيا يوجد مهمة يجب أن تعرف موقِعك في الدين، أنا لا آكل قرشاً حراماً، كلام طيب، على أي مبلغ تبقى ثابتاً مثلاً، يجوز على مبالغ ضئيلة تبقى ثابتاً، أما مبلغ كبير فتقول: والله أنا عندي أولاد يا أخي، اختلف الوضع، يقول لكَ: البلوى عامة، إن شاء الله برقبَتِهِ، مباشرةً يُغيّر كُل مبادِئِهِ، لأنَّ المبلغ كان كبيراً، شاهدهُ يحل كُل مشاكِلهُ، فربنا عزّ وجل قام بامتحانه فَسَقَطَ في الامتحان، موقِعُكَ هُنا يا عبدي أنتَ توهِم نفسك هُنا وأنتَ هُنا انتقل إلى موقع ثان، فدائماً مصائب التأديب مصائب نقل من المعصية للطاعة، لكن مصائب الابتلاء من نوع ثان، مصائب نقل من موقع إلى موقع في الطاعة نفسَها، من موقع قريب للخطر، موقع فيهِ انزلاقات إلى موقع آمن، لذلك المؤمن في الأعماق واللهِ يا عم لو وضعوا الشمسَ في يميني، والقمرَ في يساري، على أن أترُكَ هذا الأمر ما تركتُهُ حتى يُظهِرَهُ الله، أو أهلِكَ دونَهُ، هذا الموقف:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾

[سورة الحج: 11]

في حياة كل إنسان ثلاث مراحل :

 بالمناسبة وطّن نفسك عندك بحياة أي مؤمن ثلاث مراحل؛ مرحلة التأديب، ومرحلة الابتلاء، ومرحلة التكريم، هذهِ المراحل قد تكون متمايزة، وقد تكون متداخلة، هناك مصيبة تأديب، وهناك معصية لها مصيبة، الآن مستقيم استقامة تامّة، يوجد مصائب الامتحان لكي تعرف موقِعَك، حتى الإنسان لا يدّعي موقعاً غيرَ موقِعِهِ، تأتي مصيبة مُحجِّمة، أنتَ هُنا، انظر على إغراء بسيط تركت الصلاة، على إغراء بسيط تكلمت كلاماً خِلاف قناعَتكَ، على خوف بسيط أدليت بِكلام لا يتناسب مع عقيدَتكَ، عرّفك موقعك الجديد الآن انتقل إلى موقع آخر، إذا أنتَ نجحت في الامتحان الثاني الآن تدخل مرحلة التكريم واللهُ أعلم.

تفسيرات الآية التالية :

 الآية الثالثة في هذهِ الجلسة، يقولُ اللهُ عزّ وجل:

﴿ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾

[سورة الحج: 15]

 العلماء في هذهِ الآية لهم تفسيرات شتى، أبسط تفسير أنَّ اليائس من رحمة الله كافر، موتُهُ كحياتِهِ، التفسير الثاني أنَّ الإنسان إذا عادى الحق هل معاداة الحق تمنع أهل الحق أن يُكرِّمهُم اللهُ عزّ وجل؟ الله عزّ وجل إن أرادَ أن يُكرِّمَ مؤمناً لا ينتظر أي شهادة من أحد لَهُ هوَ يعرِفُهُ، أي رغمَ أنفِ خصومِهِ، ورغمَ أنفِ حُسادِهِ، ورغمَ أنفِ العاطلين عن العمل.
 بالمناسبة كنت أقول دائماً: هناك إنسان لا يُخطئ دائماً هوَ رسول الله، معصوم لكن معهُ إنسان ثان لا يغلط هوَ الذي لا يعمل، كُل إنسان لا يعمل شيئاً مرتاح، يقوم بالتنظير والنقد والطعن بالآخرين، هذا إنسان سيئ جداً لأنّهُ لا يعمل، الذي يعمل يُخطئ، فهذا الذي يحسد أهلَ الحق، والآية عن رسول الله:

﴿ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ﴾

 لهذا النبي

﴿ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾

 كَرِهَ النبي، وكَرِهَ دعوتَهُ، وينتَظِرُ بِهِ المصائب:

﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾

[سورة آل عمران : 120]

 هذا يروي غليلُهُ أن يُصابَ النبي بإحباط، بِمرض، بانهيار، بهزيمة، قال:

﴿ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ ﴾

 ليقطع عنهُ الوحي، ليقطع عنهُ تأييدَ اللهِ عزّ وجل، هذا المعنى الثاني.
 المعنى الثالث هو أقرب معنى لنا: أحياناً يقول لكَ شخص: أنا ليسَ لي حظ في هذهِ الدنيا أينما توجهت مسدودة، أضربها يميناً تأتي يساراً، تاجرنا بالأكفان لم يمت أحد، أينما يعمل مسدودة، لا يوجد حركة، هذا وضع غير صحيح، يقولُ اللهُ عزَّ وجل:

﴿ مَنْ كَانَ يَظُنُّ﴾

 أي من كانَ يتوّهم

﴿ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ ﴾

 لن يوفِقَهُ، لن يُؤيِدَهُ،.. وهم..

﴿ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾

 ليعمل عملاً خالصاً للهِ عزّ وجل، ثمَّ ليقطع كُل معصية وكُل مخالفة، ثم لينظر كيفَ أنَّ معاملة الله تتبدّل تبدلاً جذريّاً، لا تيئس إذا أنتَ عندك وهم أنَّ الأمور كُلّها ضدك كلما طرقتَ باباً أُغلِق، كلما سلكتَ سبيلاً سُدَّ أمامَك، هذهِ يقولُها أُناسٌ كثيرون، يقولون: أينما تحركت مسدودة، الحل اعمل عملاً صالحاً لِوجه الله، ثم ابحث عن الحركة اليومية هل هناكَ مخالفات شرعية؟ هل هناك مخالفات في البيت؟ في العمل؟ في كسب المال؟ في الحواس؟ ثمَّ:

﴿ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾

 هذا وهم شيطاني سيزول لأنَّ اللهَ سيوفِقُهُ، واللهُ عزّ وجل من كَرَمِهِ العظيم إذا أنتَ تحرّكت نحوَهُ حركة:

(( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً لا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً ))

[البيهقي عَنْ أَبِي ذَرٍّ]

 بمجرّد أن تتحرك نحوَ الله سوفَ تجد استجابة، وانشراح صدر، وتوفيقاً بالعمل، اللهُ عزّ وجل رب كريم ومربّ حكيم، إذا أنتَ تقرّبت هوَ يقترب مِنكَ أضعافاً، فهذا المعنى الثالث أوضح معنى يناسبنا جميعاً:

﴿ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾

 عنده طريقة يعمل عملاً صالحاً مبنياً على الاستقامة:

﴿ ثُمَّ لِيَقْطَعْ﴾

 في المنكر

﴿ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾

 هو عندهُ حالة غيظ، عندهُ إحباط، عندَهُ شعور بالإخفاق، فإذا عَمِلَ عملاً صالحاً واستقام اللهُ يُبدّل لَهُ كلَّ معامَلَتِهِ.

 

تحميل النص

إخفاء الصور