وضع داكن
19-04-2024
Logo
رمضان 1420 - خواطر إيمانية - الدرس : 27 - من سورة مريم - السمع والبصر.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

  الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

معرِفة الحقيقةِ بعدَ فوات الأوان تزيدُ الإنسانَ شقاءً :

 أيها الأخوة الكرام؛ آية تُليت البارحة في صلاة التراويح قالَ تعالى:

﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾

[سورة مريم: 38]

 هذهِ أَسْمِعْ بمعنى ما أشدَّ سمعهم، يوجد عندنا أفعال التعجّب فعلان ما أفعلَهُ! وأفعِل بِهِ!، ما أكرَمَهُ! وأكرِم بِهِ!، ما أعظَمَهُ! وأعظِم بِهِ! فالإنسان بقدرِ ما هوَ في الدنيا فيه صمم وعمى لأنَّ الشهوات حِجاب، والناسُ نيام إذا ماتوا انتبهوا، بقدرِ ما هوَ يومَ القيامةِ شديدَ السمعِ والبصر، الأزمةُ أزمةُ علمٍ فقط لِقولِهِ تعالى يَصِفُ حالَ أهلِ النار:

﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾

[سورة المُلك: 10]

 كُل إنسان يُحبّ ذاته، يُحبّ وجوده، يُحبّ سلامة وجوده، يُحبّ كمال وجوده، يُحبّ استمرار وجوده، كل إنسان حريص على سلامتهِ، وعلى سعادتِهِ، وعلى مستقبلهِ، وكُل إنسان يُحبّ التفوق والنجاح والفَلاح، هذا شيء طبيعي بالإنسان، أنا في آخر سفرة زُرت معبداً هندوسياً، شيء لا يُصدّق، تمثال من البرونز ومُطعّم بالذهب الخالص، وفي صدر التمثال ألماس برلنت، هذا أغلى أنواع الألماس، ومُكلّف ملايين الدولارات، يأتي روّاد هذا المعبد وأتباعُ هذا الدين ويسجدونَ أمامَ هذا الصنم، طبعاً هذا أشدُ حالات الاحتقار لِعقلِ الإنسان، أنهُ أنت صنعت صنماً بيدك مصنوعاً من مواد الأرض ثمَّ تسجُدُ لَهُ وتعتقد أنّهُ ينُجّيك ويحفَظُك وما إلى ذلك؟! لكن في الحقيقة عبادة هذا الصنم استجابة لِحاجة في الإنسان، التديّن حاجة أساسيّة لكن أخطأَ الهدف، الإنسان ضعيف لا يرتاح إلا إلى قوة تحميه، وقوةٍ تحفَظُهُ، وقوةٍ تؤيدُهُ، وقوةٍ تدعَمُهُ، فمن ضعفِ الإنسان الشديد صار عندهُ حاجة إلى جهةٍ قويةٍ يحتمي بِها، هذا شيء طبيعي لكنّهُ أخطأَ الهدف، المؤمن يعبُدُ الله، يعبُدُ خالِقَ الأكوان، هناك خرافات كثيرة جداً، بِجانب المعبد يوجد مكسرة جوز هند، لِمَ هذهِ؟ قال: لأنَّ الأصنام الآلهة يحبونَ جوز الهند، فيقومون بتكسيره ويضعونَهُ في الليل في غرفة الآلهة لكي يأكُلوهُ ليلاً، وهناك أشخاص مثقفون يحملون دكتوراه وهندسة يفعلون هذا ويعبدون هذا الصنم، معنى ذلك أنَّ الإنسان عندهُ ضعف في أصل خلقهِ، فهوَ بحاجة إلى جهةٍ قوية تدعَمُهُ وتحفَظُهُ وتُؤيدُهُ، أما المؤمن فيعبُدُ خالِقَ السماواتِ والأرض، الحاجة واحدة، المؤمن أصابَ الهدف، والكافر ضلَّ الهدف.
 لذلك: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ، أي ما أشدَّ سمعَهم! وأما أشدَّ بَصَرَهم! بِقدرِ ما هوَ في الدنيا أعمى أصمْ لأنَّ الشهوةَ حِجاب، هوَ في الآخرة مُرهَفُ السمع، حادُّ البصر:

﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾

 المشكلة المؤلمة أنَّ معرِفةَ الحقيقةِ بعدَ فوات الأوان تزيدُ الإنسانَ شقاءً:

﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾

[سورة المُلك: 10]

 معرِفة الحقيقةِ بعدَ فوات الأوان تزيدُ الإنسانَ شقاءً، لكن معرفة الحقيقة في الوقت المناسب تُنجّي وتُسعد، والإنسان مادام قلبُهُ ينبض فهذا وقتٌ مناسب لِمعرفة الحقيقة، ولأخذِ موقِفٍ متناسبٍ مع هذهِ الحقيقة.
 إذاً هذهِ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ، أي ما أشدَّ سمعَهم! وما أدقَّ بَصَرَهم يومَ القيامة! يَوْمَ يَأْتُونَنَا، ولكنَّ هذا السمع المُرهف والبصرَ الحاد يعودُ عليهم بالشقاءِ ندماً، كيفَ فرّطوا وكيفَ مَلَكوا الوسائل ولم يستخدموها، أي إذا شخص باع بيتهُ بخمسين مليوناً بِعملة أجنبية، ويوجد بجيبِهِ جهاز لكشف العملة المزيّفة من الصحيحة ولم يستخدمُهُ، لو لم يكن معه جهاز ذنبهُ أقل، أما لأنّ عندهُ جهازاً دقيقاً جداً، حساساً جداً لو وضع عليه العملة لَظَهر لون غير مناسب رفض الثمن، معهُ جهاز ولم يستخدِمُهُ هذا يزيدُ ألَمَهُ وحُزنَهُ وشقاءه.

 

المعصية حجاب بين العبد و ربه :

 أيها الأخوة: ما من آيةٍ تنطَبِقُ على حالِ المسلمينَ اليوم وقد وَعَدَهُم اللهُ بالنصر، ووَعَدَهُم اللهُ أن يُدافِعَ عنهُم، ووَعَدَهُم اللهُ بالتمكين، ووَعَدَهُم اللهُ بالاستخلاف، ووَعَدَهُم اللهُ بالتطمين، وعود الله للمؤمن كبيرة جداً، ولكن ما من آيةٍ تنطَبِقُ على حالِهم كهذِهِ الآية:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾

[ سورة مريم: 59]

 قد يفهَمُ بعضَكُم هذهِ الآية على أنَّ إضاعةَ الصلاةِ تركَهَا، لا أبداً، إضاعةُ الصلاةِ ليسَ تركَهَا ولكن أن تُؤدى أداءً ما أرادَهُ اللهُ عزّ وجل، والإنسان بشكل طبيعي جداً حينما يعصي الله معصيَتُهُ حِجابٌ بينَهُ وبينَ الله، فإذا كانَ هناكَ حِجابٌ بينَهُ وبينَ الله فقد أضاعَ الصلاة، روعة الصلاة بإحكامِ الاتصال بالله، وهذا يكون عن طريق الاستقامة، فإذا إنسان ارتكب مخالفة، شيء بديهي واضح وَقَفَ كي يُصلي هناك حِجاب، هذا حِجاب المعصية، فالمعاصي التي أصرّوا عليها، واستمروا عليها، هذهِ حُجُبٌ بينَ العِبادِ ورَبِهِم، بِهذِهِ الطريقة أضاعوا الصلاة:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾

[ سورة مريم: 59]

 الإنسان حركة، بالتعبير الأجنبي ديناميكي، أي المعصية تَجُر إلى معصية أكبر، والأكبر إلى أكبر إلى أن يكونَ الران:

﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾

[سورة المطففين: 14]

 إذا الإنسان استمر في المعاصي والآثام يصل إلى درجة لم يعُد عِندَهُ إمكانية أن يرجع، لذلك اللهُ عزّ وجل وصف المؤمن أنّهُ يتوبُ من قريب، وليسَ من بعيد، تأتي توبَتُهُ عِقِبَ الذنبِ مباشرةً لِئّلا يألَفَ المعصية، ويستَمِرَ عليها، فيقسو قلبهُ بعدَ حين:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾

[ سورة مريم: 59]

 وقد لَقِيَ المسلمون ذلك الغي، ويلقَونَهُ كُلَّ يوم بِسببِ أنّهم انتموا إلى الإسلامِ انتماء شكليّاً، ولم يُطبِقّوا هذا المنهَجَ العظيم.

 

التناقض بينَ الطبعِ و التكليف ثمن الجنة :

 شيءٌ آخر؛ كلمة فاعبده، العبادة طاعة، ومع الإنسان ميول وشهوات، فالطاعة تقتضي المجاهدة، وإذا قُلنا إنَّ الطاعة تكليف، التكليف شيءٌ ذو كُلفة- لَهُ كُلفة - والدليل قوُلُه تعالى:

﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ﴾

[ سورة مريم: 65]

 أي إذا أنتَ وجدت أنَّ صلاة الفجر فيها مشقّة فهذا شيء طبيعي جداً، أنتَ تُخالف طبعك، عندما وجدت في غض البصر جُهد، شيء طبيعي جداً أنتَ تُخالف طبعك، عندما وجدت في إنفاق المال صِراع داخلي، شيء طبيعي جداً أنتَ تُخالف طبعك، عندما وجدت ضبط الدخل وضبط الإنفاق وضبط البيت يحتاج إلى يقظة، وإلى جهد، وإلى إرادة قوية، وإلى أن تُضحي ببعض الشهوات، شيء طبيعي جداً إنّكَ تُخالف طبعك، فلِذلك التناقض بينَ الطبعِ وبينَ التكليف ثمن الجنة، لا تَقُل الدين.. الدين يحتاج إلى جُهد لوجود سبب، لماذا تجد أتباع ديانات أرضية بِمئات الملايين؟ لأن هذهِ الديانات ليسَ لَها منهج انتماء، إعلان ولاء فقط، لا يوجد منهج تفصيلي افعل ولا تفعل، أمّا المسلم فيوجد عندهُ قائمة طويلة عريضة من الأوامر والنواهي، المنهج الإسلامي بقرابة مئة ألف بند، في بيتك، في علاقاتك الشخصية، في علاقاتك الحميمة، في علاقاتك بأولادك، في علاقاتك بجيرانك، في علاقاتك بِجسمك، في علاقاتك بِكسب مالك، بإنفاق مالك، ببيعك وشرائك، كُل حركة وسَكنة يوجد لها حُكم شرعي، فإذا قُلنا منهج إلهي أي منهج تفصيلي، فنحنُ أكبر خطأ بلغه المسلمون أنّهُم فهمُوا الدين صلاة وصوم وحج وزكاة، مع أنّ الدين كُل أمر في الكتاب يقتضي الوجوب، وكُل أمر في السُنّة الصحيحة يقتضي الوجوب.
 إذاً: أتباعُ الأديان الحقّة قد يكونونَ قلائل، الأتباع الحقيقيون قلائل.

 

صفات المصلي :

 ذكرتُ لكم مرةً:

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾

[سورة المعارج: 19-22]

 من هُم المصلون؟

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون : 1-10]

 المُصلي له صفات كثيرة جداً، من هُنا ورد في الأثر القُدسي: " ليسَ كُلُ مُصل يُصلي إنما أتقبل الصلاة لمن تواضعَ لعظمتي، وكفَّ شهواتِهِ عن محارِمي، ولم يُصِرَّ على معصيتي، وأطعمَ الجائِعَ، وكَسا العُريانَ، ورَحِمَ المُصابَ، وآوى الغريب، كُلُ ذلِكَ لي، وعِزتي وجلالي إنَّ نورَ وجهِهِ لأضوأ عِندي من نورِ الشمس، على أن أجعَلَ الجهالة لَهُ حِلماً، والظُلمة نوراً، يدعوني فأُلبيه، يسألُني فأعطيه، يُقسِمُ عليَّ فأبرّه، أكلأُهُ بِقُربي، وأستحفِظُهُ ملائِكَتي، مَثَلُهُ عِندي كَمَثلِ الفِردوس لا يُمسُّ ثَمَرُها، ولا يتغيّرُ حالُها ".

 

العمل الطيب هدية إلى الله عزّ وجل :

 إذاً: إضاعةُ الصلاةِ لا تعني تركها، ولكن تعني أن يكونَ بينَكَ وبينَ اللهِ حِجابٌ في أثناءِ أدائِها، هذا الحِجاب هوَ المخالفة والمعصية، فمن أجلِ أن تُقيمَ الصلاة يجب أن تستقيم، من أجلِ أن تُحكِمَ الصلاة يجب أن يكونَ لَكَ عملٌ طيب، العمل الطيب هدية إلى الله عزّ وجل، وأوضح آية:

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[سورة الكهف: 110]

 تُريدُ هذا اللِقاء، تُريدُ هذا القُرب، تُريدُ هذا الإقبال، فَلْتعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا، العمل الصالح كلمة واسعة جداً، أدِّ حِرفَتَكَ أداءً جيداً بإخلاص، وصدق، وأمانة، وإتقان، كُن زوجاً مثالياً، كُن أباً رحيماً، كُن صديقاً حميماً، كُن جاراً طيباً، يكون عَمَلَك صالح في كُل حركاتك وسكناتك:

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[سورة الكهف: 110]

الحكمة من ورود المؤمن النار يوم القيامة :

 و:

﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ﴾

[ سورة مريم: 71]

 يوجد معنى دقيق جداً هوَ أنَّ وُرودَ النار غيرُ دخولِها، ورودُ النار أن تطلِعَ عليها دونَ أن تتأثّرَ بِوهجِهِا، ما فائِدةُ أن يطلِعَ المؤمِنُ على النار قبلَ دخول الجنة؟ من أجلِ أن يرى عدلَ الله، لأنّ في الدنيا أسماء الله كُلُها محققة إلا اسم العدل، الدنيا دار ابتلاء، والامتحان نتائِجُهُ يومَ القيامة، فأنتَ قد تجد إنساناً غنياً وغارقاً في شهواتِهِ، وفي معاصيه، ويعيش في بحبوحة كبيرة جداً، وفي عِز، وقد يموتُ على هذهِ الحال، وقد تجد إنساناً ضعيفاً فقيراً غارقاً في الطاعة ومع ذلك حياتُهُ خَشِنة وقد يموتُ الاثنان، إذاً أينَ الجزاء؟ اللهُ يُكافئ بعض المُحسنين تشجيعاً للباقين، ويُعاقِب بعض المُسيئين ردعاً للباقين، ولكن الحِساب الدقيق الكامل يومَ القيامة:

﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

[سورة آل عمران: 185]

 فاسم القوي مُجسّد في الكون، اسم الغني واضح، اسم القدير واضح، اسم الرحيم واضح، لكن اسم العدل؟ الآن كما ورد عن رسول الله:

((تُمْلأُ الأَرْضُ ظُلْمًا وَجَوْرًا ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ عِتْرَتِي يَمْلِكُ سَبْعًا أَوْ تِسْعًا فَيَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلا ))

[ أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ]

 تجد شعوباً بأكمَلِها تُشرّد من بيوتِها في البرد، في العراء، في الثلج، بِلا طعام ولا شراب ولا مأوى، ماذا أذنبت؟ لأنّها قالت: ربيَّ الله فقط، إذاً معقول أن تنتهي الحياة هكذا؟ أُناس يعيشون في بحبوحة تفوق حدّ الخيال وأُناس يموتونَ من الجوع من دون ذنب ارتكبوه إطلاقاً؟ ففي الظاهر ظُلم شديد، ويوم القيامة تُسوّى الحِسابات، تُسوّى ويُعطى كُلَّ ذي حقٍ حقّه، فمن أجلِ أن ترى بِعينِكَ عدلَ اللهِ عزّ وجل ترى في النار هؤلاء الذينَ عَصَوا ربهُم، هؤلاءِ الذين تجبّروا وتكبّروا، هؤلاءِ الذين عَتوا وبَغَوا تراهُم في النار، وهناك معنى أبلغ: وقد يرى المؤمِنُ مكانَهُ في النار لو لم يَكُن مؤمِناً فتزدادُ سعادَتُهُ، يرى مكانَهُ في النار لو لم يَكُن مؤمِناً، هذا معنى قولِهِ تعالى:

﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ﴾

[ سورة مريم: 71]

 أي ورود النار غير دخولِها، دخولِها استحقاقاً أما ورودِها فإطلاعاً، فمن أجلِ أن تزيدَ سعادة المؤمن في الجنة يسمحُ اللهُ لَهُ أن يرى حالَ أهلِ النار، هذا معنى هذهِ الآية.

 

من أعانَ ظالماً سلّطَهُ اللهُ عليه :

 الآن:

﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾

[ سورة مريم: 81-82]

 أي هذا من فِعلِ اللهِ عزّ وجل لِحكمةٍ بالِغةٍ بالغة، حينما تعتز بِما سِوى الله، يُريدُ اللهُ أن يُؤدِبَ هذا الإٍنسان فيجعَلُ الأذى من قِبَلِ هذا الإنسان، هذا الذي عَبَدتَهُ من دونِ الله، أي " ما من مخلوقٍ يعتَصِمُ بي من دونِ خلقي أعرِفُ ذلِكَ من نيَتِهِ فتكيدُهُ أهلُ السماواتِ والأرض، إلا جعلتُ لَهُ من بينِ ذلِكَ مخرجاً، وما من مخلوقٍ يعتصِمَ بمخلوقٍ دوني أعرِفُ ذلِكَ من نيَتِهِ، إلا جعلتُ الأرضَ هويّاً تحتَ قدميه وقطّعتُ أسبابَ السماءِ بينَ يديه ".
 فقضية إنسان يعتز بِما سِوى الله كي يكونَ لَهُم عِزّاً، الذي سيكون أنَّ هذا الذي اعتززتَ بِهِ أنتَ أول ضحاياه ويُقاسُ عليها: " من أعانَ ظالماً سلّطَهُ اللهُ عليه "، قد تُعينُهُ بِشطرِ كلمة، قد تُعينُهُ بإيماءة، هذهِ كلمة ماشي أي أنتَ وافقتُهُ على عَمَلِهِ، سكتت تهيبتَ أن تنصَحَهُ، تهيبت أن ترفُض عَمَلَهُ، تهيبت أن تعترض، فوافقت ولو بالإيماء: " من أعانَ ظالماً سلّطَهُ اللهُ عليه " حتى العلماء قالوا: من أعطاهُ قلماً كي يوقّع أعانهُ، أعطاهُ ورقة أعانهُ،.. أبداً.. إذا كان هناك ظُلم ابتعد، لا تُعطه قلماً ولا ورقة ولا تهُز بِرأسِك ولا تعمل إيماءة موافق.. أبداً.. ولا أي كلمة:

(( من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله ))

[ابن ماجه عن أبي هريرة ]

 الآن صار عندنا معنيان: إن اعتززت بِمخلوقٍ دونَ اللهِ عزّ وجل سيكونُ هذا المخلوقُ سببَ إيذاءٍ يَقَعُ بِكَ لِحكمةٍ أرادَها الله، فأنتَ أول ضحاياه إن اعتززتَ بِهِ، أو إن أعنتَهُ على ظُلمِهِ.
 يوجد معنى دقيق جداً قلّما ينتبه لَهُ الإنسان: هناك شخص يؤذي إيذاء غير طبيعي، عندما أنت تؤذي لا سمح الله ويأتيك نفع من الأذى تقريباً هناك شيء مقبول، إنسان جاهل بعيد عن الدين أوقع الأذى بإنسان وانتفع من الأذى، أحياناً تدُل على بِضاعة تأخذ ثُلث المُصالحة مبلغاً ضخماً، فأنتَ عندما قُمت بالدلالة أخذت مبلغاً، هذا بِمنطق الجاهل، بِمنطق الكافر، بِمنطق الفاجر مقبول إلى حدٍ ما أنّهُ ضرَّ إنساناً وانتفع هوَ، أما هناك حالة صعب أن نفهَمَها شخص يُؤذي ولا ينتفع، يُؤذي ولا ينتفع أبداً ما تفسيرُها؟ حالات كثيرة جداً، يُدمّر أسرة أحياناً
يُدمّر إنساناً نهائياً، ولا ينتفع بشيء، كأنّهُ يُحِب الأذى، هذا تفسيرُها:

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ﴾

[سورة مريم: 83]

 يتحرّك بتوجيه الشيطان، يُوقع الأذى بتوجيه الشيطان، دونَ أن يشعُر ودونَ أن ينتفع، إذا انتفعت نقول تقريباً إنَّ هذا الإنسان بِكُفرِهِ وبُعدِهِ عن الله وجهلِهِ وَجَدَ المنفعة بهذهِ الإخبارية فَكَتَبَها، وأخذ ثُلُث المُصالحة، أما عندما يُؤذي دونَ أن ينتفع فهذهِ حالة نادرة جداً أو حالة غريبة جداً، هذهِ تفسيرُها:

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ﴾

[سورة مريم: 83]

الوِد من علاماتِ الإيمان الصادق :

 آخر آية:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾

[سورة مريم: 96]

 لِهذهِ الآيةِ معنيان، المعنى الأول: من علامة المؤمنين وُدٌ لا حُدودَ لَهُ بينَهُم، واللهِ هذا الوِد خالِصٌ للمؤمنين. الكُفّار:

﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾

[سورة الحشر: 14]

 أمّا المؤمنون فشيء عجيب، يوجد وِد بينَهُم لا يعلَمُهُ إلا الله، وكُلما أنتَ كانَ إيمانُكَ أقوى ومحبَتُكَ للهِ أشد تشعُر بِوُد نحوَ أخيك، تشعر بوِد غير طبيعي، كأنك أنتَ وإياهُ واحد، يُؤلِمُكَ ما يُؤلِمُهُ، يُسعِدُكَ ما يُسعِدُهُ، إذا أقل شيء أصابَهُ تَهُب لِنجدَتِهِ، هذهِ الحياة اللطيفة التي فيها وِد ومحبة وتعاون وتناصر وتضحية وإيثار هذهِ من ثِمار الإيمان:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾

[سورة مريم: 96]

 هذا الوِد من علاماتِ الإيمان الصادق في الطرفين.
 الآن بالمقابل كُلما كانَ هُناكَ حسد وتنافُر وبغضاء وطعن وتصغير واحتقار بينَ المؤمنين دليل ضعف الإيمان، بل هبوطه عن الخط الأحمر، فالمُؤشر المُسعد الحُب بينَ المؤمنين والتعاون والوِد والإيثار والتضحية، والمُؤشر المُقلق أن ترى حزازات، قلوب ممُتلِئة بالحسد، بالغيظ والانتقاد، بالطعن، هذهِ علامة مُقلِقة فيما بينَ المؤمنين، ولا يُحِبُنا الله إلا بِتعاوُنِنا وتناصُرِنا وتراحُمِنا وتواضُعِنا لِبعضِنا بعضاً، وحينما نحتكم إلى غير المؤمنين في خِلافاتِنا، أي شيء مُؤلِم جداً طلاق حَصل في بِلاد الغرب يحتكِمون لِقاض أمريكي لا لِقاض مُسلِم، لأنّ القاضي الآخر يُعطي نِصف الدخل للزوجة، الزوجة ترفُضُ شرعَ اللهِ عزّ وجل، فإذا طلَّقَها زوجُها ترفَعُ القضية إلى محكمة مدنيّة كي تأخُذَ نِصفَ ثروةِ زوجِها، أمّا لو رَفَعَتها إلى محكمة شرعيّة فتأخُذُ مهرَهَا فقط، فصارَ هُناكَ أُناس هويتَهُم إسلامية يرفضونَ حُكمَ اللهِ عزّ وجل، وهذا شيء واقع، هذا المعنى الأول:

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾

[سورة مريم: 96]

 بالمقابل المعنى الثاني:

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾

[سورة مريم: 96]

 فيما بينهم وبينهُ، أعتقد أنه لا يوجد وِد بالكون أعظم من هذا الوِد، الواحد إذا كانَ لَهُ علاقة طيبة مع شخص قوي تجدهُ نائماً وهو مُطمئن، يقولُ لَكَ: معي رقم هاتِفِهِ، أي إنسان قامَ بإزعاجي أُخبِرُهُ مثلاً.. إذا شخص لَهُ صِلة مع إنسان قوي وقد يكون عبداً ضعيفاً لكنه في مقياس المجتمع قوي يشعُر بِطُمأنينة عجيبة، أو باعتزاز عجيب، فكيفَ لو كانَ لَكَ وِد مع خالِق السماوات والأرض؟

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾

[سورة مريم: 96]

 فالمؤمن بالتعبير الدارج غال على الله كثيراً، وحياتُهُ مُقدّسة، ومصالِحُهُ مُؤمّنة، ولَهُ معاملة خاصّة، ولَهُ عناية خاصّة، بل إنَّ بعضَ العلماء قال: " حتى الآيات التي هي في حقِ النبي للمُؤمِنِ مِنها نصيب ":

﴿ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾

[سورة الطور: 48]

 أي وكذلِكَ المؤمن بِقدرِ استقامته وإخلاصِهِ هوَ في عينِ اللهِ عزّ وجل.

 

تحميل النص

إخفاء الصور