وضع داكن
19-04-2024
Logo
رمضان 1418 - أحاديث ليلة القدر - الدرس : 1 - ضرورة معرفة الله.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

خير البرية من آمن بالله و اتبع منهجه :

 أيها الأخوة الكرام؛ ألف بعض الناس أن يعيشوا طوال السنة كما يحلو لهم، فإذا جاء رمضان أحيوا ليلة القدر، وظنوا أن إحياء هذه الليلة من دون التزام طوال العام يغنيهم عن هذا، هذا الذي لا يريده الله عز وجل؛ ليلة القدر تنطلق من قوله تعالى:

﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾

[سورة الأنعام:91]

 وقد ورد أنه من عرف نفسه عرف ربه، من أنت أيها الإنسان قال تعالى:

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾

[سورة الأحزاب:72]

 أنت أيها الإنسان إذا آمنت بالله، واتبعت منهجه، تكون خير البرية، أي خير ما برأ الله، يؤكد هذا قول الله عز وجل:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾

[سورة البينة:7]

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾

[سورة الإسراء:70 ]

الوجود الإنساني يتحقق بمعرفة الله و طلب العلم :

 أيها الأخوة؛ الإنسان له وجود، وجود إنساني ووجود دون هذا الوجود، إن أكل وشرب وتزوج وعمل وكسب المال واستمتع، هذا وجود حيواني، أما وجوده الإنساني فلا يتحقق إلا بمعرفة الله عز وجل؛ وجوده الإنساني لا يتحقق إلا بمعرفة رسالته في الحياة؛ وجوده الإنساني لا يتحقق إلا بمعرفة سرّ وجوده وغاية وجوده؛ وجود الإنسان الإنساني لا يكون إلا عن طريق العلم، لذلك حينما تطلب العلم، وحينما تتجه نحو الله عز وجل، تحقق أنك إنسان، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[سورة الذاريات: 56]

 في هذا الكون أيها الأخوة حقيقة واحدة هي الله جلّ جلاله، فأي شيء قربك منه فهو ربح كبير، وأي شيء أبعدك عنه فهو خسارة كبيرة، لذلك كل العبادات تتجه إلى تقريب الإنسان من الله، العبادات الشعائرية والعبادات التعاملية، العبرة أن تتجه إلى الله، لأن كل السعادة عند الله عز وجل، نحن كلنا من أثر نوره، نحن كلنا من أثر نفخة روحه جلّ جلاله، قال تعالى:

﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾

[سورة التحريم: 12]

 الإنسان أيها الأخوة خلق في الدنيا ليعبد الله، وحينما يعبد الله يكون في أعلى درجات الرقي، قال تعالى:

﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾

[سورة النجم: 8-11 ]

 العبودية تتأتى من معرفة الله، ومن معرفة نفسك، أي تتأتى بتقدير الله حق قدره.

رقي الإنسان يتعلق بطاعته و علمه :

 أيها الأخوة؛ الإنسان خلق ليزكي نفسه، والدليل قول الله عز وجل:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾

[سورة الشمس: 9-10 ]

 الذي يزكي نفسه والذي يؤهلها لتسعد في جنة ربها إلى أبد الآبدين هو الذي أفلح، وهو الذي نجح، وهو الذي تفوق، وهو الذي فاز، قال تعالى:

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾

[سورة الأحزاب: 71]

 فالعبادة أيها الأخوة تحقق للإنسان هذا الفوز، والعبادة طاعة، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾

[سورة الحجرات: 13 ]

 هناك مراتب في الدنيا كثيرة، الإنسان أحياناً يرقى بماله، وبقوته، ويرقى بوسامته، أو يرقى بذكائه، أو يرقى بأتباعه، لكن عند الله لا يرقى إلا بعلمه وطاعته، والطاعة أساسها العلم، كيف تطيع الله عز وجل إن لم تعلم؟ فلذلك العبادة في معانيها المعرفة، وكل إنسان يعزف عن طلب العلم يلغي وجوده الإنساني، فالعبادة طاعة لكن هذه الطاعة طوعية وليست قسرية، لكن هذه الطاعة معها محبة وليس معها إكراه، لأن هذه الطاعة لا تكون إلا إذا بنيت على معرفة، فنحن لا نريد أن نحقق وجودنا الإنساني إلا إذا بنيت على معرفة، ونحن لا نريد أن نحقق وجودنا الإنساني في رمضان فقط، رمضان سيولي بعد أيام، رمضان نقلة نوعية، انطلاقة إلى الله عز وجل، أي أروع ما في رمضان أن تقفز وتستمر، يأتي رمضان آخر تقفز وتستمر هكذا فمن لم يكن في زيادة فهو في نقصان، والمغبون من تساوى يوماه، والعمر قصير.

 

أكبر ربح للإنسان أن يربح نفسه يوم القيامة :

 أيها الأخوة؛ أنت زمن، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي يا بن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة، فأنت زمن، وأنت كائن متحرك متجه نحو هدف ثابت، كل دقيقة تقربك من هدفك.
 إذاً العبادة طاعة، وهذه الطاعة طوعية، وهذه الطاعة الطوعية محبة قلبية، وهذه الطاعة الطوعية مع المحبة القلبية لا تكون إلا بمعرفة الله، إذاً الإنسان إذا ما اقتطع من وقته الثمين وقتاً لمعرفة الله فهو في خسارة، قال تعالى:

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾

[سورة الكهف: 103-104 ]

 الخسارة الكبيرة أن تخسر نفسك يوم القيامة، وأكبر ربح أن تربح نفسك يوم القيامة، فيسمح لك بدخول الجنة.

 

سرّ صلاح العمل المعرفة والمعرفة تقدير الله عز وجل :

 أيها الأخوة؛ العبادة طاعة وطاعة طوعية، معها محبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، لذلك قال تعالى:

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ﴾

[سورة الفرقان: 63 ]

 ما معنى هوناً مع أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يمشي سريعاً؟ قالت عائشة رضي الله عنها: رحم الله عمر ما رأيت أزهد منه، كان إذا سار أسرع، والنبي إذا سار كأنه ينحط من صبب، ومع ذلك الآية الكريمة:

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ﴾

[سورة الفرقان: 63 ]

 قال العلماء: هوناً أي لا يسمحون للحياة أن تستهلكهم، لا يسمحون لأعمالهم أن تلغي وجودهم الإنساني، لا يسمحون لهمومهم أن تلغي وجودهم الإنساني، يمشون هوناً إذاً لا بد من طاعة طوعية، ولا بد من معرفة يقينية، إذا لم يدخل في برنامجك اليومي وفي اهتماماتك الكبرى طلب العلم فلابد من أن تنحرف، لأن العمل الصالح أساسه المعرفة، ولا يوجد عمل صالح بجهل، الجاهل يتحرك حركة عشوائية، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، سرّ صلاح العمل المعرفة، والمعرفة تقدير الله عز وجل، أحياناً تتجه المعارف كلها إلى الشرع، لكن نحن نريد أن نتبع سنة النبي، فنجعل جزءاً من المعرفة يتجه إلى معرفة الله عز وجل، أي من أرقى أنواع العبادات أن تعرف الله عز وجل، أحياناً تقول: فلان اسمه كذا هل عرفته؟ لا، يجب أن تعرف ثقافته واتجاهاته وأخلاقه وانتماءاته واستقامته، بما أنك لا تسمى عارفاً بإنسان إلا إذا عرفت كل جوانب شخصيته كذلك لا تكون عارفاً بالله جل جلاله إلا إذا عرفت أسماءه الحسنى وصفاته الفضلى، إلا إذا عرفت عدله وقوته وغناه ولطفه وإلى ما ذلك، فلا بد من أن تبذل وقتاً في معرفة الله، ليلة القدر ليلة تقدر الله فيها حق قدره، ويوجد حد أدنى من هذه المعرفة إذا وصلت إليه حملك على الطاعة، فإذا حملك على الطاعة أسعدك في الدنيا والآخرة، لذلك نحن نستقي في رمضان نفحة من نفحات الله عز وجل، من أجل أن تكون عوناً لنا فيما بعد رمضان.

 

معرفة الله تتجلى بمعرفة كماله و التفكر في خلقه :

 قضية مناسبات، هذه القضية مرفوضة في الإسلام، أنا برمضان أصلي، وبرمضان أستقيم، وبرمضان أغض بصري، وبرمضان أصلي الفجر في جماعة، وبرمضان أصلي قيام الليل، وبرمضان أضبط لساني، هذا المفهوم الخاطئ مفهوم خطير جداً يجعل الإسلام طقوساً، ويجعله عادات وتقاليد، الإسلام منهج كامل، منهج يطبق في كل حياتك، فلذلك ليلة القدر تعني أن تعكف على معرفة الله، ولا شيء يقربك من الله عز وجل كأن تعرفه، ولا شيء يبعدك كأن تسعى إلى خدمة عباده، فلذلك ليلة القدر تعني أن تعرف الله، معرفة الأمر سهل، أي إنسان عنده ذكاء، وعنده قوة على المطالعة، والفهم، والدرس، والتلخيص، يعرف الشريعة في أدق تفاصيلها، لكن المشكلة أن تعرف الله، لذلك قالوا: هناك معرفة بالله، ومعرفة بأمره، ومعرفة بخلقه، فالمعرفة بخلق الله الجامعات في العالم تعلم كل العلوم، و معرفة أمره كليات الشريعة في العالم تعلم الشرع الحنيف، أما المعرفة بالله عز وجل فهي أن تعرف كماله، أن تعرف أسماءه، لا بد من أن تتفكر في خلقه، لذلك يعد الكون أوسع باب إلى الله، و أقصر طريق إليه، ذكرت لكم مثلاً قبل يومين أن الأنف مثلاً فيه عشرون مليون مستقبل للشم، عشرون مليون عصب، كل عصب له سبعة أهداب، الأهداب مغطاة بمادة مخاطية مذيبة، تأتي الرائحة تتفاعل مع هذه الأهداب فتشكل شكلاً هندسياً، هذا الشكل هو رمز هذه الرائحة، يصل إلى الدماغ، الدماغ فيه مكان لعشرة آلاف رائحة، يعرض هذا الرمز على كل الذاكرة الشمية في الدماغ، فإذا وافق هذا الرمز هذا الأصل يعرف الإنسان أن هذه رائحة كذا، كلما فكرت بأنفك، بعينك، بشعرك، بدماغك، بأعصابك، بعضلاتك، بقلبك، بشرايينك، وبأجهزتك الدقيقة والمتنوعة ترقى في معرفة الله، وكلما فكرت في الليل والنهار، مثلاً هذا القمر يدور حول الأرض بتفاضل، ولولا هذا التفاضل لما كان تقويماً للإنسان، لو سار مع الأرض تماماً التغى دوره بدر في جهة واحدة إلى أبد الآبدين، أما هذا التفاضل في السرعة فهو يجعله ينتقل من مرتبة إلى مرتبة، ومن منزلة إلى منزلة.

حقيقة ليلة القدر أن تعرف الله وتقدره حق قدره :

 أيها الأخوة؛ قال تعالى:

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾

[سورة القدر: 1]

 أي كل الخير، إذا وسعنا المعنى ليشمل كل المؤمنين، كل الخير يتأتى حينما تعرف الله، كل التوفيق، وكل القرب، وكل السكينة، وكل السعادة، وكل الفلاح يتأتى لك حينما تبدأ بتقدير الله حق قدره، لذلك في الدين لا شيء يعلو على معرفة الله، وهذه حقيقة ليلة القدر، أن تعرفه، إنك إن تعرفه أخلصت له، وإنك إن عرفته أطعته، إنك إن عرفته أحببته، إنك إن عرفته خفت من غضبه، وإنك لو عرفته اتقيت أن تعصيه، إنك إن عرفته خدمت خلقه، إنك إن عرفته راقبت نفسك مراقبة دقيقة، فليلة القدر تعني أن تعرف الله، يمكن أن تبدأ في المعرفة في رمضان، وأن تستمر على طوال العام، يجب أن يكون شغلك الشاغل معرفة الله عز وجل، أي اجعل طلب العلم أعلى نشاط تقوم به، وأهم نشاط، هناك الكثير من الأخوان الكرام يبرمجون حياتهم كلها على طلب العلم، أي دروسه، مجالسه، تلاوته، وطلبه للعلم هي الأساس، ما تبقى يصرف شؤون حياته وفق المنهج الذي ارتضاه لنفسه، وهناك إنسان يجعل طلب العلم ثانوياً أي صدفةً، عرضي، دون أن يكون مركزاً، قال تعالى:

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾

[سورة القدر: 1]

 القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر، و إذا وسعنا الآية كل الخير الذي يأتيك من الله عز وجل يكون حينما تقدر الله حق قدره، قال تعالى:

﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾

[سورة القدر:2-3]

 الألف شهر أيها الأخوة تساوي ثمانين عاماً، أي ثمانون عاماً عبادة جوفاء ليس فيها معرفة لله لا تجدي نفعاً، ليلة واحدة تقدر فيها الله عز وجل خير من ثمانين عاماً تؤدي العبادة في هذه الأعوام كلها بشكل أجوف، أو بشكل شكلي.
 هذه الليلة أيها الأخوة تلقي في قلبك نوراً، ترى به الحق حقاً، و الباطل باطلاً، و نحن كل حركاتنا بالأرض أساسها رؤية، لو أردت أن تحلل أعمال الإنسان هذا الذي يسرق لم يسرق؟ لأنه يرى أن السرقة مغنم، الذي يزني لم يزني؟ لأنه يرى أن الزنى مغنم، و هذا الذي يعتدي و يقهر الناس لم يفعل هذا؟ لأنه يرى أن هذا مغنم، لكنك إن استنار قلبك بنور الله ترى الخير خيراً، و الشر شراً، لذلك المؤمن لو قطعته إرباً إرباً لا يعصي الله، لأنه موقن أن كل سعادته بطاعة الله، و كل أخطاره و كل مشكلاته تتأتى من معصية الله عز وجل، إذاً ليلة القدر أساسها أن تعرفه ثم أن تطيعه.

 

السعادة و السلامة في طاعة الله و تطبيق منهجه :

 أيها الأخوة؛ قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[سورة الحديد: 28]

 لو أن الأمر أردنا أن نفصله، كل إنسان يتحرك وفق رؤية، هذه الرؤية قد تكون شيطانية، و قد تكون شهوانية، و قد تكون رؤية أساسها الجهل، أما حينما يلقى في قلبك نور فالله عز وجل هكذا قال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[سورة الحديد: 28]

 لذلك الإنسان يبرمج حياته، علاقاته، عمله، مهنته، حرفته، بناته، زوجته، أولاده، أفراحه، أتراحه، سفره وإقامته وفق منهج الله عز وجل، إذا نقلتك المعرفة إلى طاعة الله جمعت المجد من كل أطرافه، والحقيقة الله له جنود لا يعلمها إلا الله، هي الملائكة، وله تجليات وسكينة من ذاقها عرفها، وهذا معنى قوله تعالى:

﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾

[سورة القدر:4]

 أي هذا الذي قدر ربه يأتيه المدد من الله عز وجل، يأتيه التوفيق، يأتيه الدعم، يأتيه النصر، يأتيه التأييد، يأتيه الحفظ، كل الخير في معرفة الله عز وجل، وكل الخير بمحبته، وكل الخير في طاعته، كل الخير بالاتصال به، وكل السعادة بالقرب منه، أي ملخص الملخص لا يوجد أخ من أخوتنا الحاضرين إلا ويبغي السلامة والسعادة أبداً، كلمتان خفيفتان ولكنهما ثقيلتان، لا يوجد واحد إلا ويتمنى السلامة من كل مرض وعاهة، ومن كل فقر، وكل إهانة، وكل سلب حرية، و لا يوجد إنسان إلا ويتمنى السعادة، إذا أيقنت يقيناً قطعياً أن كل السلامة في طاعة الله، وأن كل السعادة في تطبيق منهجه، وفي التقرب منه بالعمل الصالح، معنى ذلك أنك عرفت طرفاً من معاني ليلة القدر.
 فالمؤمن الذي عرف الله عز وجل يأنس بالله، ويستوحش من كل ما يبعده عن الله، المؤمن الذي عرف الله في هذه الليلة تضيق به الدنيا، ويتسع به المضيق، ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن أي مكان واسع جميل رحب فيه كل أنواع الجمال، إذا كان هذا المكان مبعداً له عن الله يستوحش منه، وأي مكان ضيق حرج إذا كان هذا المكان يوصله بالله عز وجل يتسع له، الذي عرف الله من خلال ليلة القدر يتسع به الضيق، ويضيق به الواسع، الذي عرف الله في هذه الليلة يأنس بالله ويستوحش مما سواه، الذي عرف الله في هذه الليلة هاب الله وهابه كل شيء، والذي عرف الله في هذه الليلة أطاع الله فأطاعه كل شيء.
 لا تصدق أن أخاً كريماً مقبلاً على الدين فقط لأن الأفكار دقيقة وصحيحة، هناك عامل أكبر من ذلك، أنت حينما اصطلحت مع الله وجدت الله سبحانه وتعالى يعاملك معاملةً لم تكن تحلم بها، التأييد والنصر والحفظ هو الذي يرفع من همتك إلى الله عز وجل.

 

الدعاء هو العبادة :

 من بركات هذه الليلة يمكن العام الماضي أعداؤنا أرادوا أن يكيدوا للمصلين في المساجد، فهيئوا نخبة عالية جداً من ضباطهم، كل ضابط مكلف بالملايين، ومدرب مدة عشرين سنة، أي نخبة ما يملك أعداؤنا هؤلاء الضباط، وأرادوا أن يتجهوا إلى أحد المساجد في جنوب لبنان، ليلتقطوا المصلين في هذه الليلة، وكان من رحمة الله أن الطائرتين دمرتا بلا سبب من الأرض، أي كان الدعاء في هذه الليلة مقبولاً عند الله عز وجل، ونحن بعد قليل سندعو الله عز وجل بأدعية كثيرة، ولكن يجب أن تعلم أن الله عز وجل يقول:

﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ﴾

[سورة الفرقان: 77]

 ما معنى الدعاء؟ معنى الدعاء أنك مؤمن بوجود الله، فأنت في الدنيا لا يمكن أن تدعو جهة لست مؤمناً بها، هل تكلم الهواء؟ تكلم شخصاً أمامك، وأنت في الدنيا لا تدعو من لا يسمعك، ومن لا يقدر على إجابتك، وأنت لا تدعو إلا من يريد أن يجيبك، هناك إنسان يقدر ولا يستطيع، موجود وعلم وقدرة ومحبة، لهذا يقول الله عز وجل:

﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ﴾

[سورة الفرقان: 77]

 معنى ذلك أنكم إن دعوتم يعبأ الله بكم، ويحبكم، ويرفق بكم، وينصركم على عدوكم، ويصلح شأنكم وأحوالكم، ويسعدكم.
 والدعاء أيها الأخوة؛ هو العبادة قال تعالى:

﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾

[سورة غافر: 60]

 أخوان كثر حدثونا عن مواقف كثيرة لهم مع الله، والله مدهشة، مرض عضال شفاؤه شبه مستحيل، دعاء صادق ومخلص، قال لي أحدهم: دعوت الله ليشفيني من هذا المرض، وما من خلية من جسمي إلا ودعت معي، وما من قطرة دم إلا ودعت معي، والمرض في الأعم الأغلب لا شفاء له، وبعد ساعات شفي تماماً من مرضه، وأنا أريد أن أبين للأخوة الكرام أنت أمام كريم، وأمام قوي، وأمام عظيم، وأمام قدير، وأمام رحيم ومحب، فإذا سألته حاجتك في الدنيا والآخرة يجب أن توقن إن الله سيجيبك، وإذا لم يجبك يدخرها لك ليوم القيامة ذخراً لك، ورفعة.
 فلذلك الدعاء هو العبادة، والإنسان عندما يدعو الله عز وجل معنى ذلك أنه موقن بوجوده، وموقن بأنه يسمعه، ويعلم أحواله، وموقن أنه على كل شيء قدير، وموقن بأنه يحبه.

 

ليلة القدر منطلق الإنسان للطاعة المستمرة :

 هذه الليلة إن شاء الله تكون منطلقاً لنا جميعاً إلى الطاعة المستمرة، وأنا الذي أتمناه عليكم أن تلغوا قضية المناسبات، أنت لك منهج ثابت في كل الشهور، في كل الأعوام، عاهدنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره.
 أحد الصحابة الكرام أسلم ودخل مع النبي في غزوة، والنبي انتصر، ووزعت عليه بعض الغنائم، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذه غنيمة، قال: ما على هذا أسلمت؟ قيل له: على ماذا أسلمت؟ قال: على الذبح، قال: أنا أسلمت على أن أكون شهيداً، على أن أضحي بنفسي في سبيل الله، ذكروا هذا للنبي فأثنى عليه، في غزوة قادمة قتل، استشهد فلما رآه النبي بكى وقال: يا رب إني أشهد أنه قاتل في سبيلك مخلصاً، طبعاً عندما قيل له: إنه استشهد، قال النبي الكريم: هو هو، فقالوا: هو هو، فبكى النبي عليه الصلاة والسلام.
 أنت تعامل إلهاً، هذه برمضان فقط غير واردة إطلاقاً، كل الأشهر رمضان، وأنت مع الواحد الديان في شوال وذي القعدة، وفي الصيف والشتاء، وفي بيتك وعملك، هذا هو الدين، لكن رمضان عبادة شعائرية من أجل قفزة نوعية، من أجل أن تنطلق إلى الله عز وجل، فأرجو الله سبحانه وتعالى أن تنطلقوا بعد رمضان، أي شيء مريح جداً أن ترى الأخوة في رمضان يملؤون المسجد في صلاة الفجر، وشيء مؤلم جداً أن ترى هذه الصفوف المكتظة أصبحت صفين أو ثلاثة بعد العيد، شيء مفرح جداً أن ترى الناس يغضون أبصارهم في رمضان، وشيء مؤلم جداً أن تراهم يعودون إلى ما كانوا عليه قبل رمضان، وأنا أريد أن أنزع من أذهانكم قضية المناسبات، لا ترقى عند الله إلا إذا تابعت الطاعة، والله عز وجل ما أرادنا أن نصوم رمضان عن كل ما نهانا عنه كي نقع بعد رمضان فيما نهينا عنه، ما فعلنا شيئاً، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، فعود نفسك وضع برنامج لك بعد رمضان، الزم دروس العلم، هذا درس العلم شحنة.

ضرورة التزكية عن المال و الوقت :

 أخواننا الكرام؛ صدقوا هذا الكلام أنت حينما تزكي عن مالك يحفظ الله لك بقية المال، ما تلف مال في بر أو بحر إلا بحبس الزكاة، وأنت حينما تزكي عن وقتك، كيف الزكاة عن الوقت؟ بطلب العلم، ولأن مشاغل الحياة كثيرة جداً انتزع نفسك من هذه المشاغل كي تأتي بيتاً من بيوت الله تطلب فيه العلم، فهذا الوقت الذي تمضيه في وقت العلم هذا زكاة الوقت، وحينما تؤدي زكاة الوقت ربنا جلّ جلاله يحفظ لك وقتك من الضياع والهدر، ثم يبارك فيه، ما معنى يحفظ؟ أي ممكن أن تستهلك مئة ساعة لمعالجة أحد أقربائك ثم يشفى، أنت تقول: ليته لم يمرض، مئة ساعة ووفرت أيضاً آلاف الليرات، فربنا عز جل قادر مع كل إنسان أن يتلف له من وقته مئات الساعات بلا جدوى، فحينما يؤدي زكاة ماله، ويأتي إلى المسجد، ويطلب العلم، و يتعهد نفسه بالأذكار والأوراد والتلاوات ما معنى ذلك؟ أدى زكاة الوقت، ربنا عز وجل ثمرة لهذا يحفظ لك وقتك من الضياع، ويبارك لك فيه، ومعنى يبارك لك فيه أي في وقت قصير تفعل الشيء الكثير، هناك بركة في وقته، ترى شخصاً كل حركاته عشوائية، كل الطرق مسدودة أمامه.
 طبقوا هذه الطريقة أيها الأخوة، إذا أنت أديت زكاة وقتك في طلب العلم، و بأداء الصلوات بإتقان، والصلاة في جماعة، حفظ الله لك وقتك من الضياع، و من التلف، و بارك لك فيه، فنحن نريد إنساناً مطبقاً المنهج على الدوام، رمضان قفزة أما كما يفعل الناس فجعلوا من هذا الشهر تقليداً، أي شيء من عادات هذه الأمة و تقاليدها في هذا الشهر فهذا الذي نرفضه إن شاء الله.

العمل الصالح هو الوسيلة إلى الله :

 شيء آخر قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[سورة الكهف: 110 ]

 إذا قدرته و أردت أن تتصل به فلتعمل عملاً صالحاً، العمل الصالح هو الطريق إلى الله، العمل الصالح هو الوسيلة إلى الله، أي هناك إنسان لا تملك أن تتصل به، و لا أن تلتقي به، مستحيل، لكن الله قال لك: أنا جاهز، لمجرد أن تعمل صالحاً أنا معك، قال تعالى:

﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾

[سورة المائدة: 12 ]

 العلماء قالوا: هذه معية خاصة، معية التأييد و التوفيق و الحفظ و النصر.
 أيها الأخوة؛ أرجو الله سبحانه و تعالى أن يعود رمضان علينا كل عام باليمن و البركات، و أن يديم حياتنا إلى رمضان القادم إن شاء الله، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَال:َ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ))

[الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ]

تحميل النص

إخفاء الصور

   

موضوعات متعلقة