وضع داكن
16-04-2024
Logo
الشمائل المحمدية - الدرس : 4 - الرحمة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الرّحمة :

 أيها الأخوة الكرام؛ مع بداية الدرس الرابع من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، والباب اليوم باب في رحمته صلى الله عليه وسلم، وقبل أن نخوض في هذا الباب لابد من مقدمة.
 الرحمة شيء وجوده صارخ في الإنسان وغيابها صارخ، كيف؟ إنسانة أم بذلت جهداً مضنياً أثناء النهار، ونامت في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وبعد أن استغرقت في النوم بنصف ساعة بكى ابنها فاستيقظت، الآن عاكست حاجة جسمها للنوم؛ إنسانة أخرى ليست أماً تعمل في مستشفى، أوت إلى الفراش في الليل، وبكى أحد الأطفال الصغار لا تستيقظ، لا تسمع صوته إطلاقاً، لأن الذي في قلب الأم ليس في قلب هذه الممرضة؛ فالرحمة شيء موجود.
 امرأة جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام أعطتها السيدة عائشة رضي الله عنها تمرة، يبدو أنها في أعلى درجات الجوع، وابنها يبكي من الجوع فأعطتها لابنها؛ الرحمة إن وجدت قد تعاكس بها حاجات الجسد إلى الراحة، أو إلى الطعام، أو إلى الشراب؛ كل إنسان في قلبه رحمة يعمل عملاً يتناقض مع مصالحه، يتناقض مع حاجات جسمه، يتناقض مع رغباته، معنى هذا أن هناك شيئاً يقاوم رغبات الجسم.
 لو فرضنا هرة مصابة بحادث يمر أمامها عشرة أشخاص، يوجد إنسان يعطل عمله، ويأخذها إلى مستوصف بيطري، ويعالجها، وإنسان ثان لا يتأثر بهذا المنظر، وحينما يرى الإنسان موقفاً يدعو إلى الشفقة هناك من يستجيب، وهناك من لا يستجيب؛ الذي يستجيب في قلبه رحمة فالرحمة شيء وإن كان غير مادي، لكن شيء وجوده صارخ.

 

القلب الرحيم قلب موصول بالله عز وجل :

 أخواننا الكرام؛ بالمناسبة هذه الرحمة تشتق من الله، ففي قلبك من الرحمة بقدر اتصالك بالله، ولا سمح الله ولا قدر في قلب الإنسان من القسوة بقدر بعده عن الله، قال تعالى:

﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾

[سورة الزمر :22]

 القلب الرحيم قلب موصول، والقلب القاسي قلب مقطوع؛ الآن المعادلة من الآية:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾

[سورة آل عمران : 159]

 شرح الآية: بسبب رحمة استقرت بقلبك يا محمد من خلال اتصالك بنا كنت ليناً معهم، فالتفوا حولك، وأحبوك، ولو كنت غافلاً لم تأت إلى قلبك هذه الرحمة، كنت إذاً فظاً، غليظ القلب؛ عندئذ ينفض الناس من حولك.
 صار هناك اتصال رحمة لين التفاف؛ انقطاع قسوة غلظة تفرق، قانون؛ دعك من كل المظاهر، المسلم إذا كان بقلبه رحمة فهو موصول، في قلبه قسوة فهو مقطوع ولو صلى قيام الليل، ولو فعل كل الطاعات؛ لو كان بقلبه قسوة فهو مقطوع عن الله، وهذه الطاعات شكلية جوفاء لا قيمة لها؛ أنت يمكن أن تزين إيمانك بالرحمة، لأن أصلها من الله؛ إن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله سبحانه وتعالى فإذا أحبّ الله عبداً منحه من هذه المكارم بعضها.

 

حرص النبي على سعادة أصحابه :

 درسنا اليوم الرحمة؛ ألح على هذا لأنه لا يمكن أن أقبل مؤمناً قاسي القلب، مؤمناً عنده غلظة، لأن المؤمن موصول، والموصول بالرحيم رحيم، والمقطوع عن الرحيم قاس؛ فإذا كان هناك مؤشران يتحركان معاً مؤشر الرحمة والإيمان أنت رحيم بقدر إيمانك؛ ويوجد قسوة بقدر إعراضك.

((عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَالِكِ ابْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا فِي أَهْلِنَا فَأَخْبَرْنَاهُ وَكَانَ رَفِيقًا رَحِيمًا، فَقَالَ: ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ))

[البخاري عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ]

 إذا إنسان وجد عملاً في بلاد النفط - بلاد الخليج- ممنوع أن يحضر زوجته، هكذا القوانين؛ هذه القوانين خلاف الطبيعة البشرية؛ إنسان تحرمه زوجته سنة هذا ليس معقولاً؛ الذي خلقه الله في قلب الزوج والزوجة لا يستطيع إنسان أن يفرق بينهما، وهم يفرقون، ممنوع إحضار الزوجة إلا إذا كان راتبه ستة آلاف وما فوق مثلاً؛ هذا خلاف الطبيعة البشرية؛ انظر إلى النبي:

(( ..فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا فِي أَهْلِنَا فَأَخْبَرْنَاهُ وَكَانَ رَفِيقًا رَحِيمًا، فَقَالَ: ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ))

[البخاري عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ]

 النقطة الدقيقة في هذا الحديث أنه ظنّ أنا اشتقنا إلى أهلنا؛ لعن الله من فرق بين الأم وابنها، وبين الزوج وزوجته، هذا شيء الله عز وجل أودعه في الإنسان؛ فكان عليه الصلاة والسلام حريصاً على سعادة أصحابه، حريصاً على رأب الصدع ولمّ الشمل؛ من الصفات الراقية في الإنسان أن تجمع شمل الأسرة، مرة سمعت عن تعيين المعلمين والمعلمات في أنحاء المحافظات، فإذا إنسان زوجته معلمة جمعاً لشمل الأسرة تنقل معه، أو ينقل معها، شيء طيب وجميل أن تجمع شمل الأسرة، هذا نظام إلهي، فالنبي عليه الصلاة والسلام:

((... فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا فِي أَهْلِنَا فَأَخْبَرْنَاهُ وَكَانَ رَفِيقًا رَحِيمًا فَقَالَ ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ ))

[البخاري عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ]

رحمته صلى الله عليه وسلم :

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ ))

[أحمد عَنْ أَبِي هريرة ]

 وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم.

(( حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ ))

[البخاري عَنْ قَتَادَةُ]

 إذا كانت الأم تصلي خلف الإمام في مكان آخر انتهت صلاتها أصبحت مع ابنها، فكان عليه الصلاة والسلام يرحم الأم وابنها فيخفف من صلاته؛ وهذا من رحمته دون تكلف.
 هناك أشخاص أذكياء جداً يتصنعون الرحمة لكن في مواطن أخرى قلبهم كاالجلمود؛ كالصخر، إذا كان القلب صخرياً وهناك موقف ظاهره فيه رحمة، هذا موقف ذكي لكن لا ينطلق من رحمة حقيقية، ينطلق من عمل لانتزاع إعجاب الناس، ممكن أن تقبل طفلاً صغيراً، العبرة أن ترحمه وترحم من حوله.

((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً ))

[مسلم عَنْ أَبِي هريرة ]

 حتى الذين أذوه؛ حتى الذين نكلوا بأصحابه، حتى الذين ذموه وهجوه؛ كان عليه الصلاة والسلام يقول: " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ".
 ما تخلى عنهم، ودعا لهم، واعتذر عنهم؛ اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون؛ أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله.

 

علو مرتبة النبي نتيجة رحمته :

 وكان عليه الصلاة والسلام أرحم الناس بالصبيان.

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ، قَالَ عَمْرٌو: فَلَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِي وَإِنَّهُ مَاتَ فِي الثَّدْيِ وَإِنَّ لَهُ لَظِئْرَيْنِ تُكَمِّلَانِ رَضَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ))

[ مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

 ينتقل من بيته إلى طرف المدينة البعيد لدقائق ليمسك ابنه، ويشمه، ويقبله، ويعود مع أصحابه؛ يوجد بقلبه رحمة؛ العلماء أجمعوا على أن أرحم الخلق بالخلق هو سيد الخلق؛ علو مرتبته بسبب رحمته قال تعالى:

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾

[سورة التوبة : 128]

((عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: يَا بْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ))

[ البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

 هذا أكمل موقف يقفه الإنسان إذا مات ابنه الصغير، والبكاء لا يقلل من حسناتك، ولا يلغي صبرك، لأن طبيعة البشر الله عز وجل أودع في الآباء رحمة.

 

أنواع الرحمة :

 بالمناسبة الرحمة نوعان؛ رحمة فطرية، ورحمة كسبية؛ فالله عز وجل من أجل أن تنطلق الحياة، وأن تستمر الحياة، وأن ينشأ الأطفال برعاية آبائهم، وضع في قلب كل أب وأم رحمة ابتدائية فطرية وليست كسبية؛ فأية أم على وجه الأرض إلا ما ندر حالات شاذة جداً تعطف على ابنها وتطعم ابنها وتحنو عليه وترضعه....
 إلا أن هذه الرحمة جيدة ولا بد منها، إلا أنها فطرية، وأجرها قليل، أية رحمة تنال عند الله أعظم الأجر؟ الرحمة العامة، أي الأم تسقي ابنها كأس الحليب، أما ابن زوجها فتسقيه كأساً نصفه حليب ونصفه ماء، رحمتها الفطرية عالية أما الكسبية فصفر؛ أكثر الزوجات إن كان لأزواجهن ولد من غيرهن تقسو عليه قسوة لا حدود لها، ترحم أولادها رحمة لا حدود لها، وتقسو على أولاد زوجها قسوة لا حدود لها، معنى ذلك أن الرحمة الكسبية عندها معدومة، أما الرحمة الفطرية فعالية، أين الأجر؟ في الرحمة العامة، أنا مرة كنت في محل تجاري في يوم عطلة محل أقمشة، صاحب المحل عنده طفل يعمل في المحل بأجر، ولأنه يوم عطلة ابنه في المحل؛ حمل هذا الصانع أثواباً عدة حتى أصبح لا يستطيع أن يحمل، قال له: لا أستطيع أن أحمل، فقال له: أنت ماتزال شاباً؛ ولم ينتبه لنفسه، حمل ابنه ثوباً واحداً فقال له: بابا انتبه ظهرك؛ أنا سقط من عيني أساساً؛ ليس له أجر بهذا العمل، هذه رحمة فطرية أعطاه الله إياها ليس من أجله، ولكن من أجل أولاده، أي أب يسعى لرعاية أولاده رحمة فطرية ولكن أين الأجر؟ في الرحمة الكسبية حينما ترحم هذا الطفل الصغير اليتيم فأنت عند الله كبير.
 ألاحظ بعض أصحاب الأعمال ابنه يضع له مليون ليرة دروس خاصة، عنده صانع طلب منه أن يذهب قبل الدوام بربع ساعة ليدخل مدرسة ليلية رفض، وقال: يجب ألا يتعلم، ولكن ابنه يريده طبيباً ومهندساً، يريده في أعلى مرتبة، يدفع دروساً خاصة مليون ليرة، أما هذا اليتيم الذي عنده فلا يرضى أن يعطيه ربع ساعة قبل الدوام؛ أنا لا أقلل من قيمة الرحمة الفطرية، لكن تأكدوا أن أجرها قليل جداً، لأنك لن تسعى إليها، جاءتك من الله هبة؛ فرحمة الأولاد شيء فطري طبيعي جداً، لا يوجد لك به أجر كلياً؛ هناك أجر ولكن الرحمة التي ترقى بها عند الله حينما ترحم الغريب كما ترحم ابنك؟! حينما ترحم هذه الفتاة التي هي زوجة ابنك في البيت كما ترحم ابنتك؟! الملاحظ البنت تنام حتى الساعة الثانية عشرة مسكينة متعبة لأنها ابنتها، أما كنتها فتقيم عليها القيامة، لا يوجد رحمة هنا وهناك الرحمة موجودة.
 الرحمة التي وضعت في قلب الأم بالفطرة لا يرقى بها الإنسان لأنه لم يسع إليها، وجاءته من غير جهد؛ النبي قال: " ولكنها رحمة عامة " .
 يوجد في الحياة مفارقات؛ أنا سمعت قصة ليست دليلاً إطلاقاً، امرأة ماتت ولها قريب صالح جداً رآها في المنام تعذب أشدّ التعذيب، النار تخرج منها، المنام كل سنة أو ثمانية أشهر، رآها مرة بوضع غير معقول لمدة ثماني سنوات، وهو رجل صالح قال لي: بعد ثماني سنوات رأيتها بحالة جيدة فسألتها: ماذا فعل الله بك؟ قالت له: الحليب يا بني؛ فسأل ما الحليب؟ هي لها أولاد زوج؛ أولادها تعطيهم حليباً كامل الدسم وأولاد زوجها نصف الكأس ماء ونصفه حليب.
 الإنسان إذا لم يعدل سينال شيئاً مخيفاً، أنا هذا الذي أتمناه أن يكون في قلبك رحمة عامة لكل الخلق، تعامل الناس وكأنهم أولادك فترقى عند الله.

رحمته صلى الله عليه و سلم بالأطفال :

vو:

((عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ رَفَعَهَا ))

[النسائي عَنْ أَبِي قَتَادَةَ]

 من حبه للأطفال كان يرحمهم؛ بالمناسبة الطفل تلقى من أبويه رحمة عالية المستوى، هذا حينما يكبر في قلبه رحمة إلى المجتمع، الآن يوجد ظاهرة في المجتمعات الغربية جريمة مخيفة، أكثر هذه الجرائم تأتي من اللقطاء، لأن هؤلاء ما اشتقوا رحمة من أحد، ما وجدوا أماً ترحمهم؛ أو أباً يغدق عليهم، فالطفل إذا ما اشتق الرحمة من والديه ينشأ إنساناً مجرماً عندما يكبر، القسوة التي تراها من بعض الناس وهم كبار ضعف الرحمة في قلوبهم سببها أنهم ربوا في بيوت لا رحمة فيها بقسوة بالغة، أخواننا المدرسون يعرفون هذه الحقيقة، الطفل المشاكس هذا ليس في بيته رحمة أبداً؛ لا يوجد وئام يوجد شقاق، والقسوة في البيت تنعكس على سلوك الابن في المدرسة، لذلك الإنسان حينما يغدق على أولاده رحمة، هذه الرحمة في المستقبل تنعكس على المجتمع، وعتاد المجرمين في العالم ما اشتقوا هذه الرحمة من أمهاتهم ولا من آبائهم.

((عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا أَوْ كَمَا قَالَ))

[البخاري عَنْ أسامة بن زيد]

 أنا ما كنت أصدق أنه صلى الله عليه وسلم ممكن أن يرى صبياناً في الطريق فيتسابق معهم؛ ممكن أن يشاهد صبياً في الطريق يحمله على الناقة ليدخل على قلبه السرور؛ بقدر رحمتك تعتني بأولادك، تغدق عليهم من الرحمة بحيث إذا كبروا أغدقوا هذه الرحمة على الآخرين، ولا ترى القسوة إلا من شقي.

((عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا أَوْ كَمَا قَالَ))

[البخاري عَنْ أسامة بن زيد]

((عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَحَسَنٌ عَلَيْهِ السَّلَام مَعَهُ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيْهِ مَرَّةً، وَيَقُولُ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ))

[أحمد عَنْ أبر بكرة ]

(( عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجْرِهِ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ ))

[البخاري عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ]

 العلماء استنبطوا أن بول الصغير الذي لم يأكل الطعام إطلاقاً نجاسة مخففة جداً؛ بينما بول الجارية أي البنت نجاسة مغلظة؛ والعلم أثبت أن ذلك الطفل الذي لم يأكل الطعام بوله نجاسة مخففة؛ لم يغسل الثوب نضح عليه الماء وانتهى الأمر.

((عَنْ يَعْلَى الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَسْعَيَانِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ))

[ابن ماجه عَنْ يَعْلَى الْعَامِرِيِّ]

 ترى الشاب الأعزب ينفق المال كيفما شاء، وعندما يتزوج يصبح عنده أولاد فيمسك؛ صار يتبع سياسة جديدة، أولاده الذين في حجره؛ عبر عن هذه الحالة بشكل لطيف وفيه دعابة: " إن الولد مبخلة مجبنة "، وهناك عبارة ثالثة في حديث آخر:" مشغلة مبخلة مجبنة"، طبعاً وفق منهج الله لا شيء عليه.
عن شريد الهمداني قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فبينما أمشي إذا وقع ناقة خلفي، فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: الشريد؟ قلت: نعم، قال: أفلا أحملك؟ قلت: بلى، ولا بي عياء، ولا لغوب، ولكني أردت البركة مع ركوبي مع النبي صلى الله عليه وسلم فأناخ ناقته وحملني.
 المجتمع الذي يكرم الصغار مجتمع راق جداً، وهؤلاء الصغار هم رجال الغد؛ بقدر ما تعتني بهم يعتنون بمن دونهم حينما يكبرون.
 يوجد ملاحظة أريد أن أقولها لكم: أحياناً تجد إنساناً بمنصب حساس، في قلبه رحمة وهو ليس ملتزماً دينياً أبداً، لكن لا يؤذي أحداً، هذه حالة طيبة، هذا نشأ في بيت متوازن، نشأ في بيت فيه رحمة ولو لم يلتزم، لكن رحمته واضحة؛ لا يتحمل أن يوقع الأذى بإنسان؛ فمثل هذا الإنسان انعكاس رحمة والديه اللذين أغدقا عليه هذه الرحمة، نحن في الجامعة أجروا تجارب دقيقة، لو أن أماً أرضعت طفلها بقسوة ينشأ هذا الطفل قاسياً؛ كلما كانت الأم ألين مع ابنها كان هذا الطفل أقرب إلى الرحمة، وخدمة المجتمع من غيره.

((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاءُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ قَالَ: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ ))

[مسلم عَنْ أَبِي هريرة ]

 هذه نقطة دقيقة جداً الطفل يحب الفاكهة؛ أحياناً يكون الأب دخله محدود، تعزف نفسه عن شراء الفاكهة، أما الطفل فلا يعرف هذا؛ بعض الفاكهة للأطفال محببة جداً؛ النبي عليه الصلاة والسلام في رواية أخرى: إذا أوتيت له الفاكهة في بواكيرها كان يقبلها ويدعو هذا الدعاء ويعطيها أصغر طفل في المجلس ليأكلها.
 عن جابر رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر فلما سلم قال لنا: على أماكنكم، أهديت له جرة من حلواء فجعل يلعق كل رجل لعقةً؛ كل واحد صلى معه له لعقة من هذه الجرة؛ حتى أتى عليّ و أنا غلام طفل صغير فألعقني لعقتين؛ هذه معاملة خاصة؛ جميع الكبار لعقة واحدة أما الصغير فلعقتين.
 أذكر مرة أنه كان في جيبي قطعة من الحلوى، جاء والد مع ابنه بعد درس الجمعة و الدرس كان مؤثراً و الحمد لله؛ فقلت له: أرأيت هذا الدرس ليس له فائدة بالنسبة لابنك، وعندما أخذ قطعة الحلوى قال له: الآن صار له فائدة؛ أي الطفل ماذا يفهم من الدرس يعرف أن قطعة الحلوى أحسن من كل هذا الكلام؛ فالإنسان يجب أن يهبط لمستوى الصغير؛ ألعق الطفل لعقتين.

 

رحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين :

و:

((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ ))

[البخاري عَنْ أَبِي هريرة ]

 الأموال لورثته و الديون عليّ؛ فالأموال لا نأخذها جميعها من الورثة، هذه مشكلة؛ الأموال لورثته و الديون عليّ.

 

تحميل النص

إخفاء الصور