وضع داكن
25-04-2024
Logo
تأملات قرآنية - الدرس : 44 - من سورة الواقعة - الإنسان خلق ليبقى.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

العاقل من يجعل نعم الدنيا متصلة بنعم الآخرة :

 أيها الأخوة الكرام؛ الإنسان خلق ليبقى، وما الموت في الحياة الدنيا إلا حالة طارئة تلابس وجوده، أي يكون في حال ينتقل إلى حالٍ آخر، حال أهل الدنيا بنظامٍ وكيفيةٍ خاصة، وحال أهل الآخرة بنظامٍ وكيفيةٍ خاصة، فالإنسان باق، وقالوا:

﴿ يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾

[ سورة الزخرف: 77]

 الإنسان خلق ليبقى، يذوق الموت ولا يموت، بقي أن هذه النعم التي أنعم الله على الإنسان في الدنيا، إن انتقل إلى الدار الآخرة، واتصلت نعم الآخرة بنعم الدنيا، فهذا من أعظم العطاء، أن تتصل نعم الدنيا بنعم الآخرة، أما أشد شيءٍ على النفس فهو السلب بعد العطاء، أشد شيءٍ على النفس في الدنيا، تصور إنساناً يسكن في بيت أربعمئة متر، في أرقى أحياء دمشق، فجأة نقل إلى بيت تحت الأرض عبارة عن تسعين متراً، ليس فيه شمس، وفي أسوأ أحياء دمشق، شيء لا يحتمل، إنسان عنده هاتف سحب منه، عنده مركبة أخذت منه، كان بصحة، فقد الصحة، الانتقال من العطاء إلى السلب من أشد الأشياء على النفس، العكس مقبول، العطاء بعد الحرمان جيد، يقول الله عز وجل:

﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ﴾

[ سورة الواقعة:1-3 ]

 الذي غفل عن الله عز وجل، وأوتي من الدنيا ما أوتي، ثم جاءه الموت سوف يسلب منه كل هذا، من كل شيء إلى لا شيء، من بيت واسعٍ فخمٍ إلى قبرٍ، من سعادة موهومة إلى عذاب أبدي.
 لذلك هذه الآية:

﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾

 أي وقوعها حق، لا بد من أن تقع، أي وقوعها محقق، ثابت.

﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾

[ سورة النحل: 1 ]

﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ﴾

 من هم العقلاء؟ من هم الأذكياء؟ من هم الموفقون؟ من هم الفالحون؟ من هم الناجحون؟ من هم المتفوقون؟ الذين يسعون لنعم في الآخرة تتصل بنعم الدنيا.
 لذلك ملخص ذكاء الإنسان وحكمته أنه إذا جاءه ملك الموت يقول: مرحباً بالموت، لأنه ينتقل من دار العمل إلى دار الخلود، من دار محدودة إلى دار ممدودة، من دار التكليف إلى دار التشريف، من دار العمل والجد والسعيّ إلى دار التكريم، أما أشقى الناس فهؤلاء الذين يعيشون في بحبوحة، ثم يأتيهم ملك الموت، فُتسلب كل هذه النعم منهم

﴿ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ﴾

 تصور هذه اللعبة التي يلعبها الصغار، هذا القلاب، أناسٌ في الحضيض بعد حين صاروا في الأوج، أناس في الأوج صاروا في الحضيض، المقياس مقدار نفعك لبني البشر إذا كنت مستقيماً، إذا كنت مطبقاً لمنهج الله، إذا كنت منتبهاً لمهمتك في الدنيا، تأتي نعم الآخرة لتتصل بنعم الدنيا، كل عقلك، وكل ذكائك، أن تجعل نعم الآخرة استمراراً لنعم الدنيا:

﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ﴾

[ سورة الواقعة:1-3 ]

 لذلك من الأدعية المأثورة:

((اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء، نعوذ بك من شماتة الأعداء، نعوذ بك من عضال الداء))

الموت ينهي كل شيء :

 الإنسان كما تعلمون يولد وهو يبكي، وكل من حوله يضحك، أما حينما يموت فكل من حوله يبكي، كل بطولته، وكل عقله، وكل ذكائه أن يضحك وحده. " واكربتاه يا أبتاه، قال: لا كربة على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه".
 سيدنا سعد بن الربيع جاءه أحد أصحاب النبي ليتفقده، قال: "يا سعد أبين الأحياء أنت أم بين الأموات؟ قال: أنا بين الأموات، لكن أقرئ رسول الله مني السلام، وقل له: جزاك الله خيراً، جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وقل لأصحابه: لا عذر لكم إذا خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف".
 في أي سعادةٍ هو في هذه اللحظة حينما يغادر الدنيا لينتقل إلى الدار الآخرة؟! والدنيا ساعة، اجعلها طاعة، الآن رمضان، الذي صامه افرضه في الصيف، في أشهر الصيف التي لا تحتمل، الذي صامه، وجاء عيد الفطر، انتهت مشقة الصيام، وبقي الأجر والثواب، والذي أفطره، انتهت متعة الأكل والشرب في رمضان، وبقي الإثم والجزاء، كل شيء يمضي.
 كنت أقول لكم دائماً: الموت ينهي كل شيء، ينهي قوة القوي وضعف الضعيف، صحة الصحيح ومرض المريض، وسامة الوسيم ودمامة الذميم، غنى الغني وفقر الفقير، ينهي كل شيء، ويبقى الجزاء، ويبقى الثواب، فهذه الآية وحدها:

﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ﴾

[ سورة الواقعة:1-3 ]

مراتب الدنيا مؤقتة و مراتب الآخرة دائمة :

 الآن الله عز وجل قال:

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾

[ سورة الإسراء: 21 ]

 أيوازى رجل من كبار التجار أو من أحد التجار الكبار في البلد مع بائع متجول؟ يعمل عشرين ساعة ليحصّل قوت يومه، وتبح حنجرته، أيوازى منصب رفيع جداً في الجيش- رئيس أركان- مع جندي غر؟ في أول خط مواجهة، في أيام الشتاء، والمطر تهطل، هذا يوازى مع هذا؟ من حيث النواحي المادية أيوازى طبيب جراح مختص مع ممرض يعمل عملاً شاقاً والأجر قليل؟ أيوازى أستاذ في جامعة مع أستاذ في قرية في أقاصي البلاد؟ هل يوازى إنسان يسكن في بيت فخم جداً مع إنسان يسكن مع كوخ حقير؟

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾

[ سورة الإسراء:21 ]

 مراتب الدنيا مؤقتة، ولا تعني شيئاً، الله أعطى الملك لمن لا يحب، أعطاه لمن يحب، ليست مقياساً، الملك لا يعني شيئاً، لأنه أعطاه لسيدنا سليمان، وهو نبيٌّ كريم، ربي:

﴿ وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾

[ سورة ص: 35 ]

 وأعطاه لفرعون وهو لا يحبه، أعطى المال لقارون، وهو لا يحبه، أعطاه لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أعطاه لعثمان بن عفان، إذاً مراتب الدنيا لا تعني شيئاً، لا تقيّم عند الله بحجمك المالي، ولا بمستوى معيشتك، تقيّم بطاعتك، وتقواك، لكن مراتب الآخرة تعني كل شيء، وهي أبدية، من هو العاقل؟ هل العاقل الذي يسعى لمرتبةٍ في الدنيا مؤقتة أم الذي يسعى لمرتبةٍ في الآخرة ثابتة؟ كل من يسعى لمرتبةٍ في الدنيا مؤقتة هو إنسان خسر خسارةً كبيرة، مؤقتة.

أخطر شيء في حياة الإنسان إيمانه واستقامته :

 لذلك من أجل أن تجعل من نعم الآخرة متصلة بنعم الدنيا، يجب أن تعرف الله، وطلب العلم فريضة، وأخطر شيء في حياة الإنسان إيمانه، وعقيدته، واستقامته، لأن الموت حق، الموت مصير كل حي، كلنا جميعاً بعد مئة عام لن تجد منا واحداً على وجه الأرض، وقبل مئة عام ما كان منا واحدٌ على وجه الأرض، الدنيا حلم، الأيام تمضي سريعاً، الوقت يسير سريعاً، الآن نحن بحياتنا، أتى رمضان، اليوم عبارة عن أربع وعشرين ساعة، البارحة كان أول يوم، الآن يأتي العيد، يأتي العيد الكبير، يأتي الشتاء، يأتي الصيف، يأتي عام سبعة وستين، ثمانية وتسعين، تسعة وتسعين، ألفين، إلى أن تأتي ساعة هي النهاية، أي الناس كلهم يقرؤون نعوتنا، أنه اعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا، لا ينفعنا إلا عملنا:

﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ﴾

[ سورة الواقعة:1-3 ]

الله عز وجل لا يُرى بالعين ولكن يُرى بالعقل :

 شيء آخر، الله عز وجل لا يرى بالعين، ولكن يرى بالعقل، قال:

﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴾

[ سورة الواقعة:58-59 ]

 أي هذا الحوين المنوي، هذه الخلية الصغيرة، التي فيها غشاء، وفيها هيولى، وفيها نواة، وفيها معلومات مبرمجة، تزيد عن الأعداد الكبيرة جداً، هذا الحوين المنوي من خلقه؟ هذه الخصية لماذا هي خارج الجسم؟ هل فكرتم في هذا؟ هذا يصّنع في ثمانية عشر يوماً، وتعطل فاعليته، ثم إذا انطلق تحرك ليلقح البويضة، عملية خلق الإنسان، هذه العملية من أعظم العمليات في جسم الإنسان:

﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ* نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ﴾

[ سورة الواقعة:58-60 ]

 خمسمئة مليون حوين تنطلق من الرجل، والبويضة تحتاج إلى حوين واحد، خمسمئة مليون في اللقاء، تحتاج البويضة إلى حوين واحد، وهذا الحوين يوجد مادة نبيلة في رأسه، مغطاة بغشاء، المادة النبيلة تشبه قرنية العين، أي الخلية الأولى تتغذى، وتعطي أختها، وهذا من عظمة الله عز وجل، الإنسان كل جسمه خلايا، كل خلية تأخذ نصيبها من الغذاء عن طريق شبكة أوعية دقيقة جداً، إلا العين، لو أن هناك الطريقة المتبعة سابقاً، ستجد أن هناك أوعية دموية في قرنية العين، كأنك ترى من شبكة، من أجل نقاء الرؤية، قرنية العين وحدها تتغذى بطريقةٍ فريدة، أول خليةٍ تأخذ حظها من الغذاء، وحظ جارتها، وينتقل الغذاء عبر الأغشية بين الخلايا، دون أن تكون هناك شبكة تعيق الرؤية، والمادة النبيلة الثانية في رأس الحوين المنوي، هذه المادة مغطاة بغشاء، فإذا اصطدم الحوين بالبويضة تمزق الغشاء، وهذه المادة النبيلة ساهمت بإحداث فجوةٍ في البويضة، يدخل منها الحوين إلى البويضة، ويبدأ التلقيح، وتنقسم إلى عشرة آلاف قسم، وهي في طريقها إلى الرحم، دون أن يزداد حجمها، الإنسان إذا اطلع على علم الأجنة يرى الشيء الذي لا يصدق، أي كيف خلقنيَّ الله عز وجل؟ انظر إلى خلق ابنك، هو أمامك، إنسان، طفل، دماغ، وأوعية، وأعصاب، ورئتان، وقلب، وكليتان، ومعدة، وأمعاء، وعظام، هذا كله من نقطة ماء، و:

﴿ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾

[ سورة المرسلات:20 ]

 تستحي به، تستحي به لو أنه كان على الثوب:

﴿ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾

 وخرج من عورةٍ، ودخل في عورة، ثم خرج من عورة، هذا أصل الإنسان، فلماذا الكبر؟ الله عز وجل لا يرى بالعين، ولكن يرى بالعقل.

﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ* نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾

[ سورة الواقعة:58-60 ]

معرفة الله من خلال التفكر بالكون :

 الآن:

﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴾

[ سورة الواقعة :63]

 في بعض الموسوعات العلمية يقولون: إن أعظم معمل صنعه الإنسان حتى الآن المفاعل النووي و هو يبدو أمام ورقة النبات تافهاً، الورقة معمل، معمل بكل معنى هذه الكلمة، قضية النبات، ظاهرة النبات وحدها من أعظم الظواهر، أي هذا النسغ الصاعد، ثمانية عشر معدناً محلولاً بالماء، هذا الجذير ينتهي بقلنسوة، هذه تستطيع أن تفتت الصخر، وأن تسري عبر الصخر، هذا الخيط الرفيع الذي لا يحتمل أن تمسكه بيدك، هذا مجهز لثقب الصخر، أحياناً ترى نباتاً متغلغلاً في الصخر، عن طريق هذا الخيط الذي ينتهي بكرةٍ صغيرة، تفرز مادة مذيبة للصخر، وأحياناً يوجد أشجار وصل طول جذرها إلى ثلاثين متراً، والجذر يتبع الماء، قد تجد جذر الشجرة نحو اليمين أو نحو اليسار، أو متغلغل في أعماق التربة، من علمه؟ ومن صممه؟ النبات وحده ظاهرة.
 الآن الماء كيف يصعد نحو الأعلى بعكس الجاذبية الأرضية؟ قال: بالخاصة الشعرية، يصعد نحو الأعلى بأوعيةٍ فيها دسامات، تسمح للماء أن يصعد دون أن يرجع، والإنسان الذي معه دوالي هذه الدوالي تضعف هذه الدسامات، أي هذا الدم حينما يضخ في وريقات، إذا ضخ الدم هكذا تفتح الوريقة، انتهى الضخ رجعت وأغلقت، الدم وهو صاعد في أوعية يصعد دون أن يرجع بخاصة الدسامات التي في الأوردة التي في الجسم، وكذلك النبات هذا النسغ الصاعد يصل للورقة، الورقة فيها يخضور، تأخذ الآزوت من الجو تصنع نسغاً نازلاً، من عنده سائل يحقن مرةً فيكون كوشوكاً؟ ويحقن مرة فيكون حديداً؟ ويحقن مرة فيكون خشباً؟ نحن عندنا في بني البشر سائل موحد تحقنه يخرج مئة نوع؟ هذا النسغ النازل يصبح جذراً، يصبح ساقاً، يصبح أوراقاً، يصبح أزهاراً، يصبح ثماراً، سائل واحد مصنع بالورقة، الورقة معمل:

﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴾

 الشجرة وحدها أيها الأخوة آية كبيرة، خشب الشجرة، في الربيع أزهرت، ثم أورقت، ثم أثمرت، ببرنامج دقيق، هذه تفاحة ستاركن، هذه غولدن، هذا تفاح شتوي، هذا سكري، كل تفاح له خصائص، له حجم، له شكل، له رائحة، قال:

﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾

[ سورة الواقعة :65]

﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ﴾

[ سورة الواقعة:68-69 ]

 عملية المطر عمليةٌ بالغة التعقيد، أي هذا الغيم كيف ينعقد حبات مطر؟ لابد له من نواة، إما الغبار، أو شيء آخر تنعقد عليه حبات المطر:

﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً ﴾

[ سورة النبأ:14 ]

 المتر المكعب من الهواء بكل درجة حرارة يحمل بخار ماء معين، إذا قمنا بتسخين الهواء، يحمل فرضاً المتر خمس غرامات من الماء، لو كان خفننا الحرارة يصير ثلاث غرامات، فتجد سحاباً محملاً ببخار ماء كبير، يواجه جبهة باردة، ينعصر بخار الماء، ينعصر الهواء، وتنعقد حبات المطر، كلمة:

﴿ الْمُعْصِرَاتِ ﴾

 ملخص علم البشر أيضاً المطر، نحن نعطي عناوين موضوعاتها، موضوع المطر موضوع طويل، أي لو لم يكن هناك تقطير لكان الماء كله مالحاً، أنا سمعت أن لتر الماء المحلى في بعض الدول النفطية يكلف أغلى من البنزين، لتر ماء محلى، هذا الماء الذي نشربه شيء كبير جداً، من صمم موضوع التقطير؟ إذا كان الماء تبخر يتخلى عن كل ما فيه، إلا ذرة الماء، فالتقطير يعطيك ماء صرفاً، أما الماء المالح بالتقطير فيغدو عذب.

﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ﴾

[ سورة الواقعة:71-72 ]

 ما حقيقة النار؟ شيء دقيق جداً، الغ النار يلغى كل شيء، لو ألغيت النار لا ترى في الدنيا شيئاً، النار وحدها، لأن النار تصهر المعادن، كل أدوات العمل والحرف أساسها معادن، لولا النار لما انقلبت الفلزات إلى معادن، إذاً الله لا يعرف إلا من خلال التفكر بالكون.
 آخر شيء:

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾

[ سورة الواقعة: 75-76 ]

﴿ لَوْ تَعْلَمُونَ ﴾

  لا أحد يعرف قيمة حقائق الفلك، لأنني أنا من أجل أن أصل إلى أقرب نجم أحتاج إلى خمسين مليون سنة، بمركبة أرضية، وأقرب نجم بعده عنا أربع سنوات ضوئية، أبعد نجم ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، قبل عام من محطة أخبار عالمية سمعت أن أربع سنوات ضوئية نحتاج إلى خمسين مليون سنة لنصل إليها، الواحد لا يلحق أن يصل، يموت قبل أن يصل، عمره كله ستون سنة، يريد خمسين مليون سنة ليصل لأقرب نجم ملتهب، أما أبعد مجرة الآن اكتشفت فبعدها ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية.

فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه :

﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ ﴾

[ سورة الواقعة:76-77 ]

 جواب القسم:

﴿ إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

[ سورة الواقعة:77-80]

 الآن يطبع في العالم كل يوم كتب تحتاج إلى أن تقرأها إلى مئتي عام كل يوم باللغة الإنكليزية فقط، ما يطبع في العالم من كتب يومياً لا تكفي مئتي عام لقراءتها، خذ كتب البشر كلهم، من آدم إلى يوم القيامة، كل هذه الكتب في كفة، وكلام الله عز وجل في كفة أخرى، لأن فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، هذا القرآن له معنى آخر لو أمضيت كل حياتك في فهمه لن تكون مخطئاً، كل حياتك، يُفهم آيةً أية، يُفهم كلمةً كلمة، يُفهم حرفاً حرفا، يفهم ما بين السطور، يفهم خلف السطور، المدلول العام، لذلك أن تعرف كلام الله، وأن تشرحه للناس، هذا من أكبر أنواع الجهاد.

﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾

[ سورة الفرقان: 52]

 أي هذا الكتاب يجب أن يكون ملء سمعنا، وبصرنا، ملء قلوبنا، لأن فيه منهج حياتنا، وفيه تعريفٌ بربنا، وفيه إنباءٌ لنا عما سيكون، وعما كان.

الموت مصير كل حيّ :

 ثم يقول تعالى:

﴿ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ* وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾

[ سورة الواقعة:82]

 أشقى الناس من جاء إلى الدنيا وكذب بكلام الله عز وجل, شقي.

﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ﴾

[ سورة الواقعة:83 ]

 هذه الساعة التي لا بد منها, يا ترى بالبيت؟ بالمستشفى؟ بالطريق؟ بالباخرة؟ بالطائرة؟ كل واحد له مكان يموت فيه، وزمان يموت فيه.

﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ* وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ﴾

[ سورة الواقعة:83 -84]

 قد يعانقه ابنه، قد يقبله ابنه.

﴿ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ* وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الواقعة:84-85]

 لو فرضنا ابن المتوفى الذي على فراش الموت يعانقه، يضمه إلى صدره، يقبله، قال:

﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ* فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾

[ سورة الواقعة:85-87]

 شخص سأل أحد العلماء، قال له: أريد أن أعصي الله عز وجل، ما السبيل؟ قال له: القضية سهلة جداً، إن أردت أن تعصيه فلا تسكن أرضه، قال له: وأين أسكن؟ قال له: تعصيه وتسكن أرضه؟! قال له: هات الثانية؟ قال له: إن أردت أن تعصيه فلا تأكل من رزقه، قال له: ماذا آكل إذاً؟ قال له: أتسكن أرضه، وتأكل رزقه، وتعصيه؟! قال له: هات الثالثة؟ قال له: إن أرت أن تعصيه، فكن في مكانٍ لا يراك فيه، قال: وأي مكانٍ ليس الله فيه؟ قال له: أتسكن أرضه، وتأكل رزقه، وتعصيه وهو يراك؟ّ قال له: هات الرابعة؟ قال له: إن أردت أن تعصيه وجاءك ملك الموت، فلا تذهب معه:

﴿ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾

  فهل يقدر إنسان مهما كان قوياً ألا يفعل هذا؟

لا تأمن الموت في طرفٍ ولا نفسٍ  وإن تمنعت بالحُجـــــــابِ والحــــــــرسِ
فما تزال سهام الــمــــــــــــــوت نافذةً  في جنب مدرعٍ منهـــــــــــا ومتـــــــــرسِ
أراك لست بوقـــــــافٍ ولا حـــــــــــــــذرٍ  كالحاطب الخابط الأعواد في الغلس
تــرجو النجاة ولم تسلك مسالكــها  إن السفينة لا تجري على الــيبــــس
* * *

 هل يستطيع إنسان ألا يموت؟ دعك من عامة الناس، أغنياء العالم، سمعت عن شخص يعمل في الفن، وهو حريص على حياته حرصاً يفوق حدّ الخيال، ما ركب طائرة في حياته لئلا يأتي حظه أسود، وقد مات جميع ركابها، ما ركب طائرة بحياته، ما أكل في العشاء طعاماً إطلاقاً إلا الفاكهة، يوم سمك، يوم فراريج، لحم أبيض، بعد ذلك مات.
 هل يستطيع إنسان ألا يموت؟

﴿ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾

 قال له: فإذا جاءك ملك الموت لا تذهب معه، قال له: لا أستطيع، قال له: تأكل رزقه، وتسكن أرضه، وتعصيه وهو يراك، ولا تستطيع أن تمتنع على ملك الموت؟ قال له: هات الخامسة؟ قاله: إذا أخذك الزبانية إلى النار فلا ترضى أن تذهب معهم، لا أريد، هل تقدر؟ الإنسان مقهور، مقهور بوجوده، باستمرار وجوده، مقهور برزقه، مقهور بمصيره، مقهور بالآخرة، فالإنسان ليس له معنى أن يعصي الله عز وجل، أما إذا أطاعه فسوف يسعد في الدنيا والآخرة:

﴿ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ* وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ* فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ﴾

  لم تكونوا مقهورين:

﴿ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ﴾

[ سورة الواقعة:87-89 ]

 هؤلاء المتفوقون، قال له: كم الزكاة يا سيدي؟ قال له: كيف؟ عندنا أم عندكم؟ قال له: عجيب، يوجد كم دين؟ قال له: يا بني عندكم اثنان ونصف بالمئة، أما عندنا فالعبد وماله لسيده، العبد ليس له شيء، يوجد أناس متفوقون في الدين، وقته، كل طاقاته، كل إمكاناته، ماله، خبراته، علمه موظف في الحق، هذا من السابقين، وهناك إنسان مقتصد، هذا لكم وهذا لي، ساعة لك، وساعة لربك، إنسان كل الساعات لله عز وجل، لكن هذا أذكى، الأول السابق أذكى، لأنه وصل إلى أعلى مستوى، سبحان الله الإنسان في الدنيا يطمح بأجمل بيت، يطمح بأحسن مركبة، إلا أنه يقول لك: الآخرة نريدها وراء الباب، لماذا بالآخرة وراء الباب وبالدنيا تريد أحسن بيت؟ شيء غريب، طموح في الدنيا، زاهد في الآخرة، اعكسها، كن طموحاً في الآخرة، وزاهداً في الدنيا.

الناس في النهاية ثلاث مراتب :

﴿ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴾

[ سورة الواقعة:90 ]

 هؤلاء نجحوا لابأس، أول واحد امتياز، له حفل تكريم، له بعثة، له كذا، الثاني لا يوجد امتيازات له فقط يعينونه:

﴿ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ* فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِين ﴾

[ سورة الواقعة: 90-91 ]

 نجح ولكن بدرجة مقبول، يأخذ الشهادة بدرجة مقبول:

﴿ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ﴾

[ سورة الواقعة:92-95 ]

 كل واحد منا حاضر، له مرتبة إن شاء الله من الأولى والثانية، أما الثالثة فمشكلة والله، الأولى، والثانية، إما من السابقين، أو من أصحاب اليمين، هذا كلام رب العالمين، هذا المصير الحتمي، الآن كم عدد البشر؟ خمسة آلاف مليون، كم جنس؟ وكم عرق؟ وكم أمة؟ وكم أصل؟ وكم لغة؟ وكم طائفة؟ وكم قبيلة؟ كل هذه التقسيمات باطلة، بالنهاية ثلاثة؛ سابقون، أصحاب يمين، مكذبون ضالون، فالإنسان يجهد أن يكون بالأولى، أو بالثانية، إذا لم يستطع أن يحصل المرتبة الأولى فليجهد أن يكون في المرتبة الثانية.
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبيِّ الأميِّ وعلى آله وصحبه وسلم.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور