وضع داكن
28-03-2024
Logo
تأملات قرآنية - الدرس : 18 - من سورة يوسف - حقيقة قصة يوسف.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الإيمان درجة علميّة و أخلاقيّة و جماليّة :

 أيها الأخوة الكرام؛ نهايات السور فيها تلخيص للحقائق التي فيها، فبعد أن انتهت قصة سيدنا يوسف عليه السلام قال الله عزّ وجل:

﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾

[سورة يوسف: 103]

 الإيمان درجة علمية، ودرجة أخلاقية، ودرجة جمالية لا تُنال بالتمني، تُنال بالسعي والدأب. لو أردنا أن نشبّه الدكتوراه، هل من الممكن أن نشبه إنساناً أميّاً لا يقرأ ولا يكتب يدّعي أنه دكتور بمن معه شهادة دكتوراه؟ مستحيل، وهذا الذي يقع، إنسان يرتكب أكبر المعاصي ويقول لك: أنا مؤمن وإيماني بقلبي، هذه إدعاء، كأن ترى إنساناً أميّاً لا يقرأ ولا يكتب ويدّعي أنه دكتور في الآداب، أو في العلوم، أو في الطب، فالإيمان مرتبة عالية تحتاج إلى كسب، وإلى جهد، وإلى تفرغ، وإلى مجاهدة، وإلى بذل، وإلى انضباط، وإلى التزام، وإلى متابعة، وإلى طلب.

﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾

[سورة يوسف: 103]

 مثلاً: إذا إنسان قال لك: الملح مفيد جداً لمن يعاني من ارتفاع الضغط. هل هذا يكون طبيباً؟ و لا حتى ممرضاً، ولا إنساناً عنده ثقافة طبية بسيطة. مادام قد قال لك: كلما أكثرت من الملح ينزل الضغط هذا جهل مطبق. إنسان يقول لك: أنا سأبني بناء من دون حديد.. هل هذا يكون مهندساً؟ ولا مساعد مهندس، ولا يوجد معه بكالوريا، ولا متعهد بناء، ولا فاعلاً، فالناس يرتكبون أخطاء كبيرة جداً في كسب المال، في إنفاق المال، في العلاقات الاجتماعية، في العلاقات مع النساء، يرتكبون أخطاء فاحشة، ويدّعون أنهم مؤمنون. لذلك قال تعالى:

﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة يوسف: 103]

 هل هناك إنسان نام ثم استيقظ فأصبح طبيباً؟ نام ثم استيقظ فصار أكبر تاجر؟ أم بالسعي الدؤوب وبسهر الليل وببذل الجهد والمعاناة والصبر حتى يصل إلى مرتبة علمية أو مرتبة مالية أو مرتبة إدارية أو مكانة اجتماعية؟

﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾

[سورة يوسف: 103]

 إذا قال لك إنسان: لا يوجد عندي وقت، ليس عنده وقت ليحضر مجلس علم، وليس عنده وقت ليقرأ القرآن، وليس عنده وقت ليسهر مع أناس مؤمنين، وليس عنده وقت ليطالع كتاباً، وليس عنده وقت ليسمع شريطاً، وأنا مؤمن وإيماني بقلبي وأنا أحسن منك، هذا شيء مضحك، إنسان لا يقرأ ولا يكتب ويدّعي أنه دكتور. هذا معنى الآية:

﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾

[سورة يوسف: 103]

 أي سلعة الله غالية.
 انظر الإنسان يدرس ابتدائي وإعدادي وثانوي وجامعة ودكتوراه، يجد نفسه لم يفعل شيئاً، يحتاج إلى بيت، وإلى عيادة، ويريد الزواج، يتدين ومن ثم يسد الدين حتى يقدر أن يعيش حياة معقولة، بالأربعين أو بالخامسة والأربعين حتى يقدر أن يعيش حياة معقولة، أي مكتف، له مكانة، عنده بيت، عنده زوجة، متى معترك المنايا؟ بين الستين والسبعين. معقول أن تنفق أربعين عاماً من عمرك كإعداد لعشر سنوات والجنة إلى الأبد لا يوجد عندك وقت فارغ كي تعد لها؟! تحتاج إلى طلب علم، تحتاج إلى متابعة، إلى عناية، إلى بذل جهد، إلى مجالسة العلماء، لا يوجد عندك وقت فراغ تسمع درساً، تسمع شريطاً، تقرأ كتاباً، تجلس مع أخ، تجلس مع عالم، لا يوجد عندك وقت، عندك وقت لماذا إذاً؟
 تصور طبيباً أخذ أعلى شهادة وفتح عيادة، وعليه ديون طائلة، جاءه مريض ضمن وقت العيادة فقاله له: والله لا يوجد عندي وقت، كل هذا التعب من أجل أن تعالج المرضى وتقول: لا يوجد عندي وقت؟!

﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾

[سورة يوسف: 103-104 ]

 من يقدر أن يدخل لعند طبيب وليس معه نقود؟ مستحيل، من يستطيع أن يقابل محامياً من دون أتعاب؟ من يستطيع أن يدخل محلاً تجارياً من دون مال؟ لا تقدر... كل شيء يحتاج إلى ثمن إلا العلم الشرعي. تجلس إلى مجلس علم، لا يوجد رسم دخول، ولا ضريبة، ادخل كما تريد لا يوجد أيّ حساب، تعال وتعلّم لوجه الله تعالى، العلم الشرعي مبذول مجاناً:

﴿ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾

[سورة يوسف: 104]

 لماذا لم يؤمن؟ قال:

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾

[سورة يوسف: 105]

 طريق الإيمان أن تفكر في خلق السموات والأرض.

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾

[سورة يوسف: 106]

بطولة الإنسان أن يؤمن بأن لهذا الكون إلهاً واحداً :

 المشكلة أيها الأخوة؛ أن تؤمن بأن لهذا الكون خالقاً، وهذا شيء طبيعي وبديهي وشائع لا يقدم ولا يؤخر، أما البطولة فأن تؤمن أن لهذا الكون إلهاً واحداً. المشكلة في الشرك لا في الإلحاد، العالم كله حتى على بعض العملات كالدولار كتب عليها: ثقتنا بالله، يقتلون الشعوب وثقتنا بالله!! فالقضية ليست قضية إيمان أو عدم إيمان، قضية توحيد وعدم توحيد، قال تعالى:

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾

[سورة يوسف: 106]

 إذاً: إن كنت ترى أن هناك قوى مستقلة في إرادتها عن إرادة الله فأنت مشرك. إذا كنت تعتقد أن بإمكان زيد أو عبيد أن يفعل ما يشاء إلى جانب فعل الله فأنت مشرك، إذا كنت تعتمد على شيء سوى الله فأنت مشرك، طبعاً الشرك تتسع دائرته، وتضيق دائرته، تتسع دائرته ليشمل معظم المؤمنين، قال: الشرك أخفى من دبيب النملة السمراء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. وأدناه أن تحب على جور، أي شخص جائر منحرف أعطاك عطاء ثميناً فأحببته وهو جائر ومنحرف، أحببت إنساناً منحرفاً لأنه أعطاك، هذا نوع من أنواع الشرك، أو إنسان نصحك فغضبت منه، وهذا نوع من أنواع الشرك.
 من علّق كل آماله بزوجته نوع من الشرك، بأولاده، من اعتمد على ماله فقد أشرك. من اعتمد على عقله، على ذكائه، على خبرته، شرك، يجب أن تعتمد على الله، يجب ألا ترى مع الله أحداً، القضية ليست قضية إيمان وعدم إيمان، قضية توحيد وعدم توحيد.
 هل ترى أن الذي في السماء إله هو في الأرض إله؟ هل ترى أن الأمر كله يرجع إليه؟ فرضاً: إذا شخص أحجم عن دخول المسجد أو عن حضور مجلس علم خوفاً من غير الله هذا مشرك. إذا إنسان اعتقد أنه إذا أطاع الله قد يناله الأذى، وكأن الله لا يحميه، أو لا يستطيع أن يحميه هذا مشرك، المشرك يرى مع الله آلهة أخرى، أما الإيمان فألا ترى مع الله أحداً، أن ترى أن الأمر راجع إليه كله:

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ﴾

[ سورة هود: 123 ]

 هذا الدسام في القلب بيد من؟ هذه الشرايين مفتوحة أو مغلقة بيد من؟ حينما تعتقد أن كل أعضائك وخلاياك وأنسجتك وأجهزتك بيد الله، وزوجتك وأولادك ومن حولك ومن فوقك ومن دونك، والمعطيات والأمطار والزراعة والصناعة والتجارة، وحركة الحياة والزلازل والفيضانات والحروب الأهلية كلها بتدبير حكيم. حينما تصل إلى هذا المستوى تكون قد بدأت بالإيمان. القضية ليست قضية إيمان وعدم إيمان، قضية شرك وتوحيد.

الدعوة إلى الله على بصيرة :

 لذلك كلمة الإسلام الأولى:

﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله﴾

[سورة محمد: 19]

 لم يقل: فقل، قال: فاعلم أنه لا إله إلا الله.

﴿ أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾

[سورة يوسف:107- 108]

 ما معنى على بصيرة؟ أي بالدليل، لا يوجد بالدين يجب أن تؤمن بما أقول لك بلا دليل، هذه دعوة ليست على بصيرة، البصيرة تأتي بالدليل العقلي، والدليل النقلي، والدليل الواقعي، والدليل الفطري، هذا هو الحق، إن لم تأتِ بالدليل فهذه دعوة ليست على بصيرة.
 أن تملي عليّ إملاءً بلا مناقشة، بلا تمحيص، بلا طلب دليل، ومنهج البحث في الإسلام إن كنت ناقلاً فالصحة، مدعياً فالدليل، تنقل خبراً هل أنت متأكد من صحته؟ تدعي شيئاً هل معك عليه دليل من كتاب الله أو من سنة رسوله أو من أقوال الصحابة أو إجماع الأمة أو بالقياس؟
 لذلك إن كنت ناقلاً فالصحة، مدعياً فالدليل، لذلك إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، المؤمن الصادق لا يقبل بلا دليل، ولا يرفض بلا دليل، عندما تتعلم منهج التلقي تصبح القضية سهلة جداً.
 النقطة الدقيقة أن عندك ميزاناً، وعندك خطأ بالوزن وخطأ بالميزان، الخطأ بالوزن سهل جداً لأنه لا يتكرر، وهذا خطأ بسيط وليس خطيراً لأنه لا يتكرر، مرة واحدة، أما الخطأ في الميزان فخطأ جسيم لأنه لا يصحح.
 إذا كان تحت الكفة وقية زائدة، تزن مليون وزنة كلها غلط، لأن الميزان غلط. شخص قال لي: عندي جهاز ضغط، و الجهاز قديم، اعتقدت أن ضغطي مناسب، و إذا بضغظي مرتفع فأصبت بعطب، يقيس ضغطه مثلاً 12 - 8 وهو 14 -10 لم ينتبه. فالخطأ في الوزن لا يتكرر، أما الخطأ في الميزان فلا يصحح، فالإنسان يجب أن يجهد للبحث عن ميزان التلقي، ماذا أقبل وماذا أرفض، ماذا أصدق وماذا أكذب:

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾

[ سورة يوسف: 108]

 لن تكون متبعاً لرسول الله إلا إذا تلقيت عن بصيرة وألقيت عن بصيرة، لن تكون متبعاً لرسول الله إلا إذا تلقيت عن بصيرة ورفضت عن بصيرة.
 شيء ثان- والشيء دقيق جداً- هذه الآية فيها دليل قطعي على أن الدعوة إلى الله فرض عين، كيف أن الصلاة فرض عين، والصيام فرض عين، والزكاة فرض عين، و الدعوة إلى الله فرض عين، فإن لم تدع إلى الله فأنت لا تتبع النبي، والذي لا يتبع النبي لا يحبه الله. والدليل:

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ﴾

[سورة آل عمران: 31]

 والذي لا يحب الله ليس مؤمناً. إن لم تتبع النبي لا تحب الله لقوله تعالى:

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ﴾

[سورة آل عمران: 31]

 وإن كنت متبعاً للنبي يجب أن تدعو إلى الله على بصيرة، والدعوة إلى الله على بصيرة عن طريق الدليل والتعليم، الدليل العقلي و النقلي والواقعي والفطري.

الحد الأدنى بالمؤمن أن يتحرك لهداية الخلق وخدمتهم :

 يوجد شيء آخر؛ مستحيل أن يستقر الإيمان في قلب إنسان ولا يعبّر عن ذاته بحركة نحو خدمة الخلق، أو نحو هدايتهم، مستحيل، الحد الأدنى بالمؤمن أن يتحرك لهداية الخلق وخدمتهم، فلذلك إذا إنسان قال لك: أنا ليس لي علاقة، أنا الحمد لله مؤمن والله أنجاني وأفهمني، لا، هذا انتماء فردي يتناقض مع روح الجماعة التي أمر الله بها، مستحيل إنسان ينسحب من مجتمع ويعّلق عليه ويحتقره وهو ناج، هذا موقف غير أخلاقي، موقف فيه استعلاء، هؤلاء أهلك، هؤلاء بنو جلدتك، فأنت اسع إلى هدايتهم.

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾

[ سورة يوسف: 108]

الدعوة إلى الله فرض عين في حدود ما تعلم ومع من تعرف :

 بالمناسبة الدعوة إلى الله فرض عين في حدود ما تعلم ومع من تعرف، أنت عندك محل ويوجد عندك خمسة موظفين أو ستة، هؤلاء زادك إلى الله، أنت أب عندك أولاد، أنت عم عندك أولاد أخ، أنت عندك جيران، جيرانك، أصدقاؤك، أقرباؤك، الموظفون عندك، هؤلاء الذين هم حولك، هؤلاء زادك إلى الله، ادع هؤلاء في حدود ما تعلم وفي حدود ما تعرف، هكذا الدعوة كفرض عين.

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾

[ سورة يوسف: 108]

 إذاً ما علاقة المشركين بأول الآية؟ القرآن كلام خالق الكون قال: لو دعوت إلى ذاتك تكون مشركاً، هناك من يدعو إلى الله، وهناك من يدعو إلى ذاته، إذا دعوت إلى ذاتك أو دعوت على غير بصيرة أو أمليت إملاءً دون مناقشة أو دون قبول اعتراض معنى ذلك أنك أشركت نفسك مع الله وجعلت الدعوة إلى ذاتك:

﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾

 لو ألغيت الدليل أشركت، لو ألغيت التعليل أشركت، لو دعوت إلى ذاتي أشركت.

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾

[سورة يوسف: 108]

الحكمة من جعل النبي الكريم ضعيفاً :

 ثم قال تعالى:

﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾

[سورة يوسف: 110]

 الله عزّ وجل قادر لمجرد أن تفعل خيراً أن يأتيك الخير بعد ثانية، وقادر لمجرد أن تفعل شراً أن يأتيك العقاب بعد ثانية، لو أن الله فعل هذا لأُلغي الاختيار، إذا كان بعد المعصية فوراً عقاب، وبعد الطاعة فوراً ثواب التغى الاختيار، مثلاً: يأتي النبي يدعو إلى الله، يكذبه المكذبون، وينامون في بيوتهم مطمئنين، يتهمونه بالجنون وبالشعر وبالإهانة:

﴿قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾

[سورة الذاريات: 52]

 وناموا في بيوتهم آمنين، فالله جعل النبي ضعيفاً أول دعوته، لماذا جعله ضعيفاً؟ حتى يكون الإيمان به ذا قيمة، إذا جعله قوياً فالإيمان لم يعد له قيمة، خافوا من قوته فآمنوا، أما جعله ضعيفاً فممكن أن تقول عنه: مجنون، ممكن أن تكذّبه، ممكن أن تقول عنه: ساحر، ممكن أن تؤذيه وأنت مرتاح، كان النبي الكريم يمر على آل ياسر وهم يعذبون، هل استطاع أن يخلصهم؟ لم يستطع. قال لهم: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة.
 يوجد حكمة بالغة؛ سيد الخلق لا يتمكن أن يخلص إنساناً من التعذيب لأنه آمن فيه، لا يقدر حتى يكون الإيمان برسول الله عظيماً جداً، ربنا عزّ وجل يدفعك ثمن الطاعة. أحياناً يتوقف بيع الخمر فتنزل الغلة للربع، يوجد أناس عندهم مطاعم أوقفوا البيع فالغلة تراجعت، يجب أن تتراجع لأنها إن لم تتراجع لا أجر لك، صارت تجارة.
 شخص في حلب عنده مطعم كتب: "ممنوع شرب الخمر بأمر الرب والرزق على الله" صار الأرمن يقلدونه لكي يحضروا زبائن أكثر، أي القضية لا علاقة لها، إذا الخير يأتي بعد الطاعة مباشرة لا أجر لك، ولو يأتي الشر بعد المعصية لا وزر عليك، أما يجب أن أن تفعل الخير إلى أمد طويل ولا تجد فرقاً، وتفعل الشر وتجد لا أحد يحاسبك، هذه الحياة، أين الله؟ الله يرخي لك الحبل بعد ذلك يحاسب.

فرز المؤمنين من قِبل الله عز وجل :

 لذلك:

﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ﴾

 لماذا أخّر الله النصر؟ حتى يفحص الناس، يكشفهم، إذا شخص فكّر انتهى الإسلام، الإسلام انتهى إلى الأبد، قضية وجود أو عدم وجود، لم تعد نصراً أو هزيمة، وجود أو عدم وجود. العرب كلها ائتمرت على النبي لتستأصله، عشرة آلاف مقاتل في الجزيرة واليهود نقضوا العهد وانتهى، أما الصحابة واحد من أتباع النبي قال: أيعدنا صاحبكم أن تُفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته. قال:

﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾

[سورة الأحزاب: 11]

 فالإنسان يوطن نفسه أن هناك امتحانات حتى يظهر إيمانه، وتظهر ثقته بالله، واعتماده عليه، وتوكله، لابد من أن تُمتحن، الشافعي سُئل رضي الله عنه: أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ قال: لن تُمكّن قبل أن تُبتلى، هذا معنى قوله تعالى:

﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ﴾

 الله يؤخر النصر لكي يفرز المؤمنين. لأنه:

﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾

[سورة آل عمران: 179]

 لابد من أن يفرز المؤمنين، كيف يفرزهم؟ بتأخير النصر.
 الآن أحياناً إنسان تجده غير قادر على الزواج، ليس معه ثمن بيت، ومستقيم، ويغض بصره، ومن درس إلى درس، و لا يوجد أمل إطلاقاً، بعد ذلك الله عزّ وجل يفرج همومه بعدما امتحنه. لأنه من أحبّنا أحببناه، ومن طلب منّا أعطيناه، ومن اكتفى بنا عمّا لنا كنا له ومالنا.
 أحياناً الإنسان يتديّن، يقول لك: هذا جامع فيه أخوان كثر، هؤلاء كلهم سيصبحون زبائني، يبدأ بداية خاطئة، يريد الدنيا عن طريق الجامع، تجد الأمور تصبح كلها ضده، الله يريده خالصاً من دون شوائب، من دون أهداف أرضية، حتى الإنسان لو استقام اليوم، واليوم الثاني جاءه دخل كبير تصبح الاستقامة تجارة، يُقبل الناس عليها لا لأنها استقامة، ولا لأنها تُرضي الله، بل لأنها مُربحة، الله لا يحب هذا، يريدك أن تأتيه من دون أهداف، أن تحبه لذاته، بعدئذٍ يكرمك. كل هذا الكلام لماذا؟

﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ﴾

 لماذا أخّر الله النصر؟ أولاً: فرز المؤمنين أعطاهم ثمن الطاعة، مثلاً:

﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا ﴾

[ سورة التوبة : 28 ]

 ممنوع دخول المشركين، السياحة وقفت، لا يوجد فنادق، أُغلقت الفنادق والمطاعم، كله توقف:

﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ﴾

 معنى هذا أن هناك فقراً أمامكم:

﴿ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾

 يأتي الفرج ولو بعد حين حتى تمتحن.
 أحياناً الإنسان تأتيه وظيفتان؛ الأولى بثلاثين ألفاً، لكن عمله يكون في فندق خمس نجوم وعليه عدة مشكلات، والثانية بخمسة آلاف لكنه عمل لا شبهة فيه، يؤثر العمل الثاني لأنه لا شبهة فيه، إن آثر الدخل القليل على الدخل الكبير فالله عزّ وجل يعطيه بعد حين الدخل الكبير لأنه امتحنه ونجح، هذا معنى:

﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾

[سورة يوسف: 110]

 رحمة الله في بأسه على القوم المجرمين، هذا البأس لعله يرجعهم إلى الله.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور