معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم شطر الدين:
أيها الأخوة الكرام، نحن في ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيا سيدي يا رسول الله، يا من جئت الحياة فأعطيت و لم تأخذ، يا من قدست الوجود كله، ورعيت قضية الإنسان، يا من زكيت سيادة العقل، و نهنهت غريزة القطيع، يا من هيأك تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع فعشت واحداً بين الجميع، يا من كانت الرحمة مهجتك، والعدل شريعتك، والحب فطرتك، والسمو حرفتك، ومشكلات الناس عبادتك، يا سيدي يا رسول الله يوم كنت طفلاً عزفت عن لهو الأطفال، وكان أترابك إذا دعوك لتلعب معهم كنت تقول لهم: أنا لم أخلق لهذا، ولما بلغت رسالة الهدى، وحملت أمانة التبليغ، دعتك زوجتك السيدة خديجة لأخذ قسط من الراحة قلت لها: انقضى عهد النوم يا خديجة، ولما فتحت مكة المكرمة التي أخرجتك، وآذتك، ونكلت بأصحابك، وائتمرت على قتلك، سألوك وسألتهم ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فاذهبوا فأنتم الطلقاء.﴿ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾
إذا كان قلب سيد الخلق وحبيب الحق يزداد يقيناً بسماع قصة نبي دونه فلأن يمتلئ قلبنا إيماناً بمعرفة سيرة سيد الأنبياء والمرسلين، وسيد ولد آدم أجمعين من باب أولى، من قال الله بحقه:﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
ومن أقسم الله بحياته وبعمره فقال:﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(72) ﴾
معرفة رسول الله ونحن في ذكرى مولده ضرورية ليكون قدوة لنا:
أيها الأخوة الكرام، الله عز وجل يقول:﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ ﴾
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
ما الذي يمنعنا أن نتحدث عن رسول الله كزوج، وكأب، وكصديق، وكصاحب، وكداعية إلى الله عز وجل، لذلك معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في ذكرى مولده هذه المعرفة ضرورية جداً، ليكون قدوة لنا، لابدّ لكل إنسان من شخصية يتمنى أن يكونها، وشخصية يكره أن يكونها، وشخصية يكونها، ما الشخصية التي تتمنى أن تكون على نهجها؟ ما الشخصية التي تتمنى أن تكون معها؟ ما الشخصية التي ترمق أفعالها بأعلى نظرة؟ إنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.مديح النبي دون اتباع منهجه لا يقدم و لا يؤخر:
أيها الأخوة، ألف المسلمون في بقاع الأرض في ذكرى النبي أن يمدحوا رسولهم، وهذا شيء طيب، وشيء جميل، وشيء مسعد، ولكنهم إذا اكتفوا بمديح نبيهم صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوا منهجه لا ينتفعون بهذا المديح، لأنه لابدّ من الاتباع، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
لا بد من الاتباع حتى نقطف ثمار الدين، جميل جداً أن نحتفل بهذه الذكرى العطرة، وجميل جداً أن نجتمع، وأن نتحدث عن أخلاق النبي، وعن شمائل النبي، والأجمل من هذا أن نتبع النبي عليه الصلاة والسلام.من طبق سنة النبي في حياته فهو في مأمن من عذاب الله:
أيها الأخوة، يقول الله عز وجل:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
معنى الآية، في حياة النبي واضحة جداً، لكن ما معنى الآية بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى؟ معنى الآية أن يا محمد ما دامت سنتك مطبقة في حياتهم، في كسب أموالهم، في إنفاق أموالهم، في علاقاتهم، في أفراحهم، في أتراحهم، في مشكلاتهم، مادامت سنتك مطبقة في حياتهم فهم في مأمن من عذاب الله، أكبر ضمانة لنا كمسلمين أن يرحمنا الله، وأن يحفظنا، وأن يقوينا على أعدائنا، أن نكون مطبقين لمنهج رسول الله، هذه الآية دقيقة جداً وما من آية ألصق بهذه الذكرى من هذه الآية:﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
حقائق هامة على كل إنسان أن يعرفها:
1 ـ معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والعملية فرض على كل مسلم :
﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك، كل أمر في القرآن الكريم وما صحّ من السنة يقتضي الوجوب، فإذا قال الله عز وجل:﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
2 ـ أُمِرنا أن نطيع النبي ونقتدي به لأنه معصوم بمفرده بينما أمته معصومة بمجموعها:
أيها الأخوة الكرام، شيء آخر؛ النبي عليه الصلاة والسلام وحده في عقيدة المسلمين معصوم بمفرده، فالله عز وجل عصمه من أن يخطئ في أقواله، وأفعاله، وإقراره، لذلك أمرنا أن نتبعه، بل إن الله عز وجل لم يقبل دعوى محبته إلا بالدليل قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
فلابدّ من معرفة منهج النبي، ولابدّ من اليقين القطعي أن النبي معصوم بمفرده، بينما أمته معصومة بمجموعها لقول النبي عليه الصلاة والسلام:(( لا تجتمع أمتي على ضلالة ))
معصوم بمفرده؛ بأقواله، وأفعاله، وإقراره، ولكن لابدّ من تعليق بسيط: الله عز وجل سمح له بهامش اجتهادي ضيق جداً، فإذا جاء اجتهاده وفق ما ينبغي أقره الوحي على ذلك، وإذا جاء اجتهاده بخلاف ما ينبغي صحح له الوحي من أجل أن يكون هناك فرقاً بين مقام الألوهية المطلق ومقام البشر غير المطلق، هذه مداخلة ضيقة جداً.3 ـ الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي عين الاستجابة لله:
أيها الأخوة الكرام، شيء آخر ونحن في ذكرى المولد أن الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي عين الاستجابة لله بدليل قوله تعالى:﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾
ضمير المفرد، هذا من لفتات القرآن الكريم؛ بمعنى أن إرضاء رسول الله عين إرضاء الله، وإرضاء الله عين إرضاء رسول الله،﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾
4 ـ دليل محبة الله سبحانه اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم:
شيء آخر وهو الدقيق، كل يدّعي أنه يحب الله، كل مسلم على وجه الأرض يقول: أنا أحب الله، ولكن الله لن يقبل دعوى محبته إلا بالدليل، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
أيها الأخ الكريم، أيها المسلم الحبيب، لا تعش في الأماني، الحقيقة المُرّة أفضل ألف مَرّة من الوهم المريح، أن تكتفي بمديحه هذا لا يسمح لك أن تقطف ثمار هذا الدين، ينبغي أن تطبق منهجه، حاسب نفسك حساباً دقيقاً.5 ـ طاعة الله عز وجل بشكل طوعي لا قسري:
أيها الأخوة الكرام، شيء آخر لا بد منه؛ قالوا: من عرف نفسه عرف ربه، أنت من؟ أنت المخلوق الأول لقوله تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾
وأنت المخلوق المكلف، كلفك الله أن تعبده، فقال:﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
الله عز وجل أراد أن تكون علاقتنا به علاقة حبّ لا إكراه:
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
أرادها أن تكون علاقة حب، قال تعالى:﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾
إذاً هي طاعة ليست قسرية ولكنها طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، فما عبد الله من أحبه ولم يطعه، وما عبد الله من أطاعه ولم يحبه.تعصي الإله وأنت تظهر حبه ذاك لعمري فـــي المقال شنيع
لو كان حـبك صادقاً لأطعته إن الــــمحب لمن يحب يطيع
***
العبادة علة وجودنا فيها جانب معرفي وجانب سلوكي وجانب جمالي:
أيها الأخوة الكرام، العبادة هي طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.
جانب معرفي، وجانب سلوكي، وجانب جمالي، الجانب السلوكي هو الأصل، لن نقطف من ثمار الدين شيئاً إلا إذا استقمنا على أمر الله، جانب سلوكي أصل هذا الجانب أن تعرف الله، لأنك إذا عرفته تفانيت في طاعته، أما إذا عرفت أمره ولم تعرفه، تفننت في معصيته، جانب سلوكي، وجانب معرفي، وجانب جمالي.
فلو شاهدت عيناك من حسـننا الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنا
ولو سمعت أذناك حُسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب و جئتنا
ولو ذقت من طعم المحـبَّة ذرةً عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنا
ولو نسمت من قربنا لك نسمةٌ لمـُت غريباً واشـتياقاً لقربـنا
ولو لاح من أنوارنا لـك لائحٌ تركــت جميع الكـائنات لأجلنا
فما حبنا سهلٌ وكل مـن ادعى ســهولته قلنا له قد جهـلتنـا
* * *
من كان مع الله كان أسعد الخلق:
أيها الأخوة الكرام، ملك قال مرة بعد أن أصبح عارفاً بالله: "لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها".
إن كنت مع الله أنت أسعد الخلق، وإن لم تقل ليس على وجه الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني ففي الإيمان ضعف.
أيها الأخوة الكرام، أنت إنسان مخلوق أول، مكرم، مكلف أن تعبده، وأنت عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، غذاء العقل العلم، وغذاء القلب الحب، هناك حب يسمو بك، وحب يهوي بك، الحب الذي يسمو بك أن تحب الله، وأن تحب أنبياءه جميعاً، وأن تحب سيد الأنبياء والمرسلين، وأن تحب صحابته جميعاً، وأن تحب التابعين والعلماء العاملين، وأن تحب كل مؤمن، وأن يكون انتماؤك لمجموع المؤمنين:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾
هذا الحب يسمو بك، لذلك قالوا: هناك حب في الله وهناك حب مع الله، الحب في الله عين التوحيد، والحب مع الله عين الشرك، أن تحب جهة قوية ليست ملتزمة بمنهج الله عز وجل، لكن جاءك منها نفع فأحببتها هذا حب مع الله وهو عين الشرك.وأخيراً..
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.***
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.التفكر في السماوات والأرض من أرقى العبادات:
أيها الأخوة، أصل الدين معرفة الله، وفي القرآن الكريم ألف وثلاثمئة آية تتحدث عن الكون، مع آية الأمر يقتضي أن تأتمر، ومع آية النهي يقتضي أن تنتهي، ومع آية هلاك الأمم يقتضي أن تعتبر، ومع آيات الجنة ينبغي أن تسعى إليها، ومع آيات النار ينبغي أن تفر منها، ما موقفك مع ألف وثلاثمئة آية تتحدث عن الكون؟ موقفك التفكر في السماوات والأرض، وهذا التفكر من أرقى العبادات، قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
من هذه الآيات الكونية، بين الأرض والشمس مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر، الشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة، أي جوف الشمس يتسع لمليون وثلاثمئة ألف أرض، والله عز وجل حينما يقول:﴿ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾
﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
أيها الأخوة الكرام، رائد الفضاء حينما صعد إلى القمر، هذا الرائد بعد أن تجاوز طبقة الهواء التي تزيد عن خمسة وستين ألف كيلو متر صاح بأعلى صوته: لقد أصبحنا عمياناً، يبدو أن ظاهرة تناثر الضوء تلاشت بعد تخطي طبقة الهواء، هذه الحقيقة عرفناها بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام بألف وأربعمئة عام، بعد ريادة الفضاء، أما أن تفتح القرآن الكريم وتقرأ قوله تعالى:﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنْ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾
هذا هو القرآن الكريم، هذا هو القرآن المعجز، الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن.