الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
البشر من خلال القرآن الكريم مؤمنون وكافرون ومنافقون :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الثالث والخمسين من دروس سورة التوبة، ومع الآية الخامسة والسبعين وهي قوله تعالى:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾
أيها الأخوة، لا زلنا في سياق الآيات التي تتحدث عن المنافقين، وشيء لا يغيب عنكم أن البشر من خلال القرآن الكريم مؤمنون، وكافرون، ومنافقون، المؤمن هو الذي عرف الله فانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فسلم وسعد في الدنيا والآخرة، بينما الكافر هو الذي غفل عن الله، بل أنكر وجوده أحياناً، وتفلت من منهجه فعلاً، ثم أساء إلى خلقه، فشقي وهلك في الدنيا والآخرة، هذا هو أصل التقسيم، إنسان عرف الله، فانضبط بمهجه، وأحسن إلى خلقه، فسلم وسعد في الدنيا والآخرة، وإنسان غفل عن الله، وتفلت من منهجه، وأساء إلى خلقه، فشقي وهلك في الدنيا والآخرة، هذا أصل التقسيم.المنافق في الدرك الأسفل من النار لأنه جمع بين التفلت وبين مكاسب المؤمن :
أيضاً لا يغيب عنكم أن الله عز وجل يقول:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾
ذلك أن الكافر واضح، فأنت أخذت منه احتياطاً، أعلن لك كفره، لن تصغي إليه، لن تأخذ بإرشاداته، لن تلتقي معه، أما المنافق فأظهر الإيمان، وأنت بشر، لا تعلم الحقائق الباطنة فصدقته، فإذا به يغدر بك.﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾
لأنهم جمعوا بين التفلت في السلوك وبين مكاسب المؤمنين، لذلك سياق الآيات يتحدث عن هؤلاء المنافقين، قال تعالى:﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ ﴾
ولا شك أن كل واحد من المؤمنين إذا أدى عمرة، أو أدى حجة لبيت الله الحرام، وهو يقترب من الحجر الأسود يقول له: يا رب عهداً على طاعتك، ولكن الشيء المؤلم أن الله عز وجل يقول:﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ﴾
المؤمن إذا عاهد الله فهو عند هذا العهد :
بطولتك أنك إذا عاهدت رسول الله عز وجل أن تكون عند هذا العهد، فالمؤمن إذا عاهد الله هو عند هذا العهد، لذلك قال تعالى:
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾
أدى ما عليه، فحينما تشعر أنك عاهدت الله، وأنت عند عهدك، هذه مرتبة عالية في الإيمان، وكان إبراهيم عليه السلام قدوة في هذا الموضوع،﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾
قال يا بني:﴿ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ﴾
شيء رائع جداً، خضوع لمنهج الله مئة بالمئة.﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ ﴾
عاهد الله:﴿ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ﴾
أي إذا أصبحت غنياً سأنفق من هذا المال، منهم ثعلبة، منهم ابن قيس، منهم حاطب.﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾
قال العلماء: الرزق أحياناً إما أن يكون عن طريق الأسباب، أو عن طريق التفضل، أحياناً لك تجارة، تشتري البضاعة، أو تبيعها، الفرق بين سعر الشراء والمبيع هو الربح، فأنت كسبت هذا المال عن طريق الأخذ بالأسباب، لكن أحياناً الإنسان يأتيه مبلغ كبير، من دون جهد كبير، هذا الرزق تفضلي، إذاً هناك رزق عن طريق الأسباب، وهناك زرق فضلي.أنواع النصر :
بالمناسبة كما يقال دائماً: الشيء بالشيء يذكر، الله عز وجل حينما تحدث عن النصر قال: هناك نصر استحقاقي، وهناك نصر تفضلي، وهناك نصر كوني، أما الاستحقاقي فهؤلاء الصحابة الكرام في بدر حينما أخلصوا لله عز وجل، واصطلحوا مع الله، وواجهوا جيشاً كبيراً مسلحاً مع صناديد قريش، وهم يريدون أن يلغوا الإسلام أصلاً، الله عز وجل نصرهم قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾
قال العلماء: هذا هو النصر الاستحقاقي، لكن الله تعالى قال:﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾
هذا النصر الثاني ليس استحقاقياً ولكنه نصر تفضلي، وأحياناً الطرفان المتقاتلان بعيدان عن الدين بعد الأرض عن السماء، من الذي ينتصر؟ الأقوى، الذي يملك سلاحاً متطوراً أكثر، مداه المجدي أكبر، فهناك نصر كوني لا علاقة للإيمان والكفر بهذا النصر، قضية أسلحة، قضية إعداد، قضية خطط، قضية إستراتيجية دقيقة، فهناك نصر كوني، وهذا يكون بين الطرفين البعيدين عن الله عز وجل، أما أحياناً فالله عز وجل ينصر المؤمنين لا نصراً استحقاقياً لكن نصراً تفضلياً لحكمة بالغة، وهناك نصر بالأساس استحقاقي.من اصطلح مع الله عز وجل تولى الله حياته بالتوفيق والسداد :
لذلك أيضاً يوجد رزق عن طريق الأسباب، لكن أحياناً الإنسان بطريقة أو بأخرى يأتيه رزق وفير عن طريق التفضل.
فلذلك:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾
هذا عهد، والشيء الذي يملأ القلب حسرة أن الإنسان حينما يعاهد الله عز وجل ثم يخلف عهده يصغر بعين الله، بل يسقط من عين الله، وأقول لكم هذه الكلمة: سقوط الإنسان من السماء إلى الأرض ومع هذا السقوط تنحطم أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله، البطولة أن تكون عند الله مقرباً، أن تكون عند الله صادقاً، أن تكون عند الله طائعاً.((احفظ الله يَحْفَظْك))
إذا اصطلح مع الله عز وجل تولى الله حياته بالتوفيق، والسداد.سعادة الإنسان وسلامته ومستقبله منوط بطاعة الله عز وجل :
هذا ينقلنا إلى قضية دقيقة جداً سماها بعض المفسرين معية الله، الله عز وجل قال:
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾
قال العلماء: معكم بعلمه، أية حركة، أو سكنة، أو تقدم، أو تأخر، هو بعلم الله عز وجل، هو معكم بعلمه، لكن إذا قرأت القرآن فإذا بالقرآن آية:﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
﴿ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾
﴿ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
هذه المعية ليست معية عامة، لكنها معية خاصة، قال العلماء: معكم بالتوفيق، معكم بالنصر، معكم بالتأييد، معكم بالحفظ، والمقولة التي أرددها كثيراً: إذ كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ وأقول مرة ثانية: يا رب ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟(( ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء))
فلذلك سعادتك، وسلامتك، ومستقبلك منوط بطاعة الله، من هنا جاء قوله تعالى:﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾
مقاييس الفوز عند الله عز وجل :
الحقيقة: هناك مقاييس أرضية، وهناك مقاييس سماوية، الأرضية أن تكون غنياً، الأرضية أن تكون صحيحاً، أن تكون وسيماً أحياناً، أن تكون قوياً، هذه مقاييس الفوز الأرضية، لكنك إذا بحثت عن الفوز السماوية أن تكون عند الله فائزاً، قال تعالى:
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾
أذكر آية:﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾
يبدو من خلال هذه الآية أنك إذا عرفت الله عرفت كل شيء، أنك إذا اتقيت الله وصلت إلى كل شيء، أنك إذا أحببت الله أحبك كل شيء، العلاقة مع الله علاقة أساسية في حياة الإنسان، لذلك الله عز وجل خالق السموات والأرض، يحيي ويميت، بيده مقاليد الأمور، فإذا كنت معه كان الله معك، لذلك قال بعض العارفين:أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنـا فـــإنا منحنا بالرضا من أحبنا
ولـــذ بحمانا واحتمِ بجنابنا لــنحميك مما فيه أشرار خلقنا
وعن ذكرنا لا يشغلنك شاغـل وأخـلص لنا تلقى المسرة والهنا
وسلم إلينــا الأمر فيما يكن فــما القرب والإبعاد إلا بأمرنا
* * *
الناجح و الفالح :
لذلك أيها الأخوة، أنت إذا عاهدت الله وكنت عند عهدك فأنت ناجح نجاحاً حقيقياً، بل إنك فالح، والفرق دقيق جداً بين الناجح والفالح، الناجح هو الذي حقق ناجحاً في الدنيا، نجح في جمع المال، نجح في اعتلاء منصب رفيع، نجح في تربية أولاده، لكن الفالح هو الذي حقق سر وجوده، وغاية وجوده، نجح في معرفة ربه، لذلك آيات كثيرة:
﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
نجح في الدنيا والآخرة معاً، والنجاح محبب، والإنسان حينما ينجح يسعد بنجاحه أيما سعادة، حتى لو نجح في دراسته، أو في نيل شهادة عليا، أو في تجارته، النجاح محبب، فكيف إذا كان نجاحاً في معرفة الله؟ فكيف إذا كان نجاحاً في دخول الجنة؟ فذلك:﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾
وكنت أحياناً أضرب مثلاً للتقريب: إذا قال لك طفل: معي مبلغ عظيم، كم تقدر هذا المبلغ؟ عقب العيد أخذ من أقربائه بعض الهدايا النقدية، فالطفل يقول لك: معي مبلغ عظيم، قد يكون مئتي ليرة، لكن إذا قال مسؤول كبيرة في دولة عظمى: أعددنا لهذه الحرب مبلغاً عظيماً، قد يكون مئتي مليار دولار.أعظم عطاء على الإطلاق معرفة الله عز وجل :
إذا قال الله عز وجل ودققوا في هذه الآية:
﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾
أي أعظم عطاء على الإطلاق أن تعرف الله، لذلك قال تعالى:﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
مال من دون بنين شيء مؤلم جداً، بنون كثر من دون مال شيء مؤلم جداً﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ ﴾
لكن الله سبحانه وتعالى يقول:﴿ وَالْبَاقِيَاتُ﴾
بكلمة والباقيات عرّف المال والبنون، لأنهن زائلان،﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ ﴾
ماذا يفهم من كلمة المال والبنون؟ شيء زائل، لذلك كل شيء ما سوى الله فهو زائل.النفس لا تموت لكنها تذوق الموت :
لذلك المؤمن إذا جاء إلى الدنيا، وعرف الله في هذه الدنيا، واستقام على أمره، وأحسن إلى خلقه، هذه الدنيا تقوده إلى الآخرة، الآن أحياناً نستخدم الخط البياني، طريقة حديثة في التعبير عن التطورات أحياناً، فإذا كان خط المؤمن البياني صاعداً وهذا الصعود مستمر، يبقى مستمراً حتى ما بعد الموت، والموت نقطة على هذا الخط الصاعد، لكن الإنسان الذي ما عرف الله، واشتغل بدنياه، وانغمس بشهواته المحرمة، قد يكون خط بيانه صاعداً صعوداً عجيباً، لكن هناك نقطة من هذا الصعود سوف يهوي إلى أسفل سافلين، فالبطولة أن يكون الخط البياني صاعداً صعوداً مستمراً.﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾
النفس لا تموت لكنها تذوق الموت، معنى الموت أن ينفصل الجسد عن النفس، وأن تتوقف الروح، الإنسان ذاته نفسه، النفس هي التي تؤمن.﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴾
أو:﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾
فنفس الإنسان ذاته، ذاته نفسه، تؤمن أو تكفر، ترقى أو تسقط، تسعد أو تشقى، هذه النفس، هذه النفس ضمن جسد، هذه النفس ترى من خلال العينين، تسمع من خلال الأذنين، تتحرك من خلال الأرجل، تبطش عن طريق اليد، فهذه النفس هي الآمرة، هي الناهية، هي السعيدة، هي الشقية، هي المحاسبة، هي المكلفة، هي المؤمنة، هي الكافرة، هذه هي النفس، هناك وعاء للنفس هو الجسد، عند الموت ينفصل الجسد عن النفس، أما القوة التي تحرك هذا الجسد فأنت بالروح ترى، بالروح تسمع، بالروح تمشي، ما دام الروح بالجسد فهناك حركة، وسمع، و بصر، وإدراك، ومحاكمة، وتكلم، ونطق.من يتحرك بلا منهج ولا مبدأ فحركته خاسرة :
الموت انفصال النفس عن الجسد، وانقطع الإمداد الإلهي عن طريق الروح، لذلك:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾
معنى ذلك النفس تذوق الموت ولا تموت، لذلك الخلود إما في جنة يدوم نعيمها، أو في نار لا ينفد عذابها، القرار خطير جداً، لذلك الله عز وجل يقول:﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾
هذا الذي يتحرك بلا منهج، بلا مبدأ، بلا قيم، بلا هدف، حركة عشوائية أساسها مصلحته، أساسها شهواته، أساسها ولاءاته، هذه الحركة العشوائية حركة خطيرة جداً.نموذج الإنسان قبل أن يعرف الله في القرآن الكريم :
لذلك أيها الأخوة، الشيء الدقيق أن القرآن الكريم قدم نماذج بشرية، مثلاً قال:
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ﴾
الإنسان قبل أن يعرف الله هلوع، شديد الخوف، شديد الجزع، شديد الحرص.﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾
القرآن قدم لك نموذج الإنسان قبل أن يعرف الله:﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
لأن مضي الزمن يستهلكه، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه فالقرآن قدم لك نماذج بشرية، مثلاً:﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ﴾
الهدف من تقديم نماذج عن الإنسان المؤمن و الكافر و المنافق في القرآن الكريم :
قال بعض العلماء: كلمة الإنسان إذا جاءت معرفة بال تعني الإنسان قبل أن يعرف الله، فالله عز وجل قدم لك نماذج الإنسان المؤمن.
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾
قدم لك نماذج إنسان مؤمن، إنسان كافر، إنسان منافق، وهذا حديثنا عن المنافقين، قال العلماء: هذه النماذج التي وردت في كتاب الله عن أهل الإيمان، وعن أهل الكفر والعصيان، وعن أهل النفاق والبهتان، هذه النماذج ما هدفها؟ الحقيقة هدفها خطير جداً، أنت إذا قرأت القرآن ورأيت صفات المؤمنين تنطبق عليك، فهذه نعمة لا تعدلها نعمة، تطمئن إلى عطاء الله، تطمئن إلى عدل الله، تطمئن إلى رحمة الله، إذا قرأت آيات المؤمنين ورأيتها تنطبق عليك:﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾
أي آمن بالغيب، وبالآخرة، ولم يرَ الآخرة، آمن بالله عن طريق مخلوقاته،﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾
الأخلاق التي يتحلى بها المؤمن إنما اشتقها من خلال اتصاله بالله تعالى :
﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾
جوهر هذا الدين الصلاة:﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾
من حيث العقيدة آمن بالله خالقاً، مربياً، مسيراً، آمن بأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى،﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾
لا خير في دين لا صلاة فيه، انعقدت صلته بالله عز وجل، اشتق من الله عز وجل من خلال هذه الصلاة مكارم الأخلاق، صار رحيماً لأنه اتصل بالرحيم، صار عدلاً لأنه اتصل بالعدل، صار لطيفاً لأنه اتصل باللطيف، كل مكارم الأخلاق التي يتحلى بها المؤمن إنما اشتقها من خلال اتصاله بالله، والدليل:﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
أي بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد كنت ليناً معهم:﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
إذاً القرآن قدم نماذج بشرية للبشر، وأنت إذا قرأت القرآن ينبغي أن تدقق في مدى مطابقة هذه الصفات، صفات المؤمنين عليك، فإن تطابقت فهذا خير كبير، وفضل عظيم، وإن لم تطابق فالباب مفتوح، والطريق سالك إلى الله عز وجل، باب التوبة مفتوح، فلذلك الله عز وجل وصف الإنسان أحياناً:
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ﴾
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
لأن مضي الزمن يستهلكه،﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ﴾
الله سبحانه وتعالى قدم لنا في كتابه الكريم نماذج عن الأمم الطاغية أيضاً :
الآن فضلاً عن أن الله سبحانه وتعالى قدم لنا في كتابه الكريم نماذج بشرية، قدم لنا أيضاً نماذج عن الأمة الطاغية، فقال تعالى عن قوم عاد:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
معنى:﴿ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
؛ أي تفوقت في شتى المجالات، وفي آية أخرى جاءت التفاصيل قال:﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ﴾
تفوق عمراني.﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾
تفوق صناعي.﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾
تفوق عسكري، وهناك تفوق علمي:﴿ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾
تفوق عمراني، تفوق صناعي، تفوق عسكري، تفوق علمي.عاد مثال للأمة الطاغية الباغية التي تسخر طاقتها لاستغلال ما عند الآخرين :
ماذا فعلت عاد؟ قال:
﴿ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ﴾
ما قال طغوا في بلدهم، قال:﴿ فِي الْبِلَادِ ﴾
أحياناً هناك دول قوية جداً، أثرها السلبي وطغيانها يعم البلاد كلها تقريباً،﴿ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ﴾
﴿ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾
التفوق العمراني، والصناعي، والعسكري، والعلمي، غطرسة:﴿ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾
﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾
؟ غطرسة، وكأنك ترى بعض الأمم القوية في هذا العصر تنطبق عليها هذه الصفات مئة بالمئة، فالله عز وجل فضلاً عن أنه قدم نماذج بشرية للأفراد قدم نماذج للأمم والشعوب، فالأمة الطاغية الباغية، التي تسخر طاقتها لاستغلال ما عند الآخرين من ثروات، هذه الأمة جاء ذكرها في القرآن الكريم،﴿ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾
هناك ملمح دقيق في هذه الآية، ما أهلك الله قوماً إلا ذكرهم أنه أهلك من هم أشد منهم قوة إلا عاد حينما أهلكها قال:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ ﴾
أي ما كان فوق عاد إلا الله، صفات دقيقة تفصيلية تنطبق على أية أمة ظالمة باغية معتدية، فالله قدم نماذج، قدم نماذج للأشخاص، وقدم نماذج للشعوب، فأنت أمام قرآن من عند خالق الأكوان، أنت أمام قرآن يقدم لك نماذج.باب التوبة مفتوح على مصارعه ما دام القلب ينبض :
الآن الشيء الذي أتمنى أن يكون واضحاً جداً أن هذه الخصائص التي ترد في القرآن عن المؤمنين مقياس لك أيها المؤمن، هل تنطبق عليك؟ إن لم تنطبق عليك، أو إن لم ينطبق بعضها عليك، فالباب مفتوح، والإصلاح سهل، ما دام القلب ينبض كل شيء يحل، باب التوبة مفتوح على مصارعه، لذلك لما أدرك فرعون الغرق قال:﴿ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴾
فجاء الرد الإلهي:﴿ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ﴾
خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت فقط :
الحقيقة هناك نقطة دقيقة جداً: أنت مخير بملايين الموضوعات، لكن اختيار قبول أو رفض، أردت الزواج عرضت عليها الزواج ليس دينها كما ينبغي، رفضتها، عرضوا عليك بيتاً صغيراً وسعره غال، رفضته، لك أن ترفض آلاف الأشياء هذا خيار قبول أو رفض، إلا أنك مع الإيمان لا تملك خيار قبول أو رفض، تملك خيار وقت فقط، خيار وقت إما أن تؤمن بالوقت المناسب، أو أن تؤمن بعد فوات الأوان، فلذلك الآية الكريمة:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾
الآية التالية لا تعني واحداً إنما تعني عدداً كبيراً ممن عاهدوا الله وأخلفوا عهدهم معه:
﴿ فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾
أحجموا عن الإنفاق، طبعاً جاءت العبارة بصيغة الجمع، هذه الآية لا تعني واحداً كثعلبة تعني عدداً كبيراً ممن عاهدوا الله، وأخلفوا عهدهم معه،﴿ فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾
﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾
وإذا رجعتم إلى كتب السيرة ترون أن هذه الآية تنطبق على ثعلبة وعلى أشخاص كثر، هؤلاء جميعاً- عكرمة أيضاً- هناك أشخاص ورد ذكرهم في السيرة النبوية عاهدوا الله، ثم أخلفوا ما وعدوه، وكيف نستنبط هذا؟ من قوله تعالى:﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آَتَاهُمْ ﴾
ما قال: فلما آتاه، من يتوهم أن هذه الآية تنطبق على واحد فقط فهذا خطأ كبير،﴿ فَلَمَّا آَتَاهُمْ ﴾
يعني عدد كبير منهم كما ذكر بعض المؤرخين الذين عاهدوا الله على أن ينفقوا ثم أحجموا.﴿ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾
بطولة الإنسان أن يحتل مكانة رفيعة عند الله عز وجل :
مرة ثانية: لأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنحطم أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله، قد تكون فقيراً لكنك عند الله كبير، قد تكون بمنصب متواضع جداً لكنك مؤمن، مستقيم لك مكانة عند الله، قد تكون ذا دخل قليل فالحياة خشنة في بيتك لكنك عند الله كبير، لكن المشكلة أن هؤلاء الذين:
﴿ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴾
عظماء لكن عند الله ليسوا كذلك، فالبطولة أن تحتل مكانة عند الله، البطولة أن تكون لك عند الله مكانة رفيعة، ابتغوا الرفعة عند الله، لأن الله بيده كل شيء، بيده سعادتك، بيده رزقك، بيده أولادك، بيده زوجتك، بيده من حولك، بيده من فوقك، بيده من تحتك، بيده الأقوياء، بيده الأغنياء، بيده كل شيء، فأنت إذا عرفت الله عرفت كل شيء، وإن فاتتك معرفة الله فاتك كل شيء:﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آَتَاهُمْ ﴾
كأني بإخوتي الكرام المشاهدين أدوا فريضة الحج أو العمرة عند الحجر الأسود الدعاء الذي علمنا إياه النبي:((اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك وسنة نبيك، وعهداً على طاعتك))
فالإنسان إذا أدى الحج أو العمرة وقال عند الحجر الأسود: وعهداً على طاعتك، ينبغي ألا ينسى هذا العهد أبداً، وبطولته أن يكون عند عهده، فإذا عاهدته على الطاعة ينبغي أن تكون مطيعاً لكن الله عز وجل يقول مع الأسف الشديد:﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ﴾
فكن أنت من إذا عاهد الله كنت عند هذا العهد:﴿ فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾